نـــظرات في بعض مسائل التقاضي في التشريع المغربي والفقه المالكي - عماد مسواد






عماد مسواد

باحث في العلوم القانونية

تقديم:

كان النظام القانوني والقضائي المغربي يتسم  بالطابع الديني الصرف، حيث ساد تطبيق الفقه الإسلامي على مذهب الإمام مالك كمصدر رسمي وصاحب الولاية العامة في جميع النوازل المعروضة على القضاء إلى حين مجيء الحماية الفرنسية التي احتلت معها التشريعات المستمدة من القوانين الغربية المرتبة الأولى من بين المصادر الرسمية للقاعدة القانونية، ورغم ذلك لم يأفل نجم الفقه الاسلامي المالكي أُفولا تاما، بل أصبح مصدرا احتياطيا يرجع إليه القاضي في بعد القضايا كلما اقتضت الضرورة، حيث إن المادة الأولى من مدونة الحقوق العينية و المادة 400 من مدونة الأسرة والمادة 169  من مدونة الأوقاف تحيل في كل ما لم يرد به نص فيهما على  الراجح والمشهور  وما جرى به العمل من الفقه المالكي .

ولما كان القضاء من أجل العلوم قدرا، وأعزها مكانا، والسبيل الوحيد لحفظ الحقوق وتأمين الاستقرار داخل المجتمعات، فقد احتل لدى المذهب المالكي _على غرار باقي المذاهب الفقهية_ مراتب عليا، وقد  جمعت أحكامه في العديد من أمهات الكتب منها المتن الخليلي بالمختصر وفي تحفة ابن عاصم وفي لامية الزقاق، وفي النوادر والزيادات والذخيرة، والمدونة الكبرى وغيرها، وقد جاءت هذه الدراسة لتجيب وفق منهج شرعي أصيل وقانوني حديث عن طبيعة هذه الأحكام ومميزاتها ومقارنتها بما يقابلها من مقتضيات تشريعية مغربية .

المطلب الأول : إجراءات صدور الأحكام بين الفقه القضائي المالكي والقانون المغربي

لا مراء أن صدور الأحكام وتنفيذها هو مؤدى القضاء ومقصده، ولإحقاق هذه الغاية  لابد أن تأخذ كل قضية سبيلا من الإجراءات تبتدأ من تبليغ الاستدعاء إلى حين النطق بالحكم، وتختلف هذه الاجراءات في الفقه المالكي بالنظر إلى مثيلتها في القانون المغربي .

الفقرة الأولى : في تبليغ الاستدعاءات وإلزامية الحضور للجلسات

سنتناول في هذه الفقرة سبل تبليغ الاستدعاءات _أولا_  وطرق إلزام الخصم لحضور للجلسات _ثانيا_ .

أولا: في تبليغ الاستدعاءات

جاء في ملخص الأحكام الشرعية لابن عامر أنه يتعين تبليغ الدعوى للمدعى عليه ليحضر ليسمع البينة المقامة عليه وليدفع حجة خصمه وذلك قبل يومين على الأقل من موعد المحاكمة، ويمدد هذا الأجل إذا كان المدعى عليه يقيم خارج مركز المحاكمة، وعلى المبلغ أن يثبت في قسيمة التبليغ ما يفيد أنه بلغها للمدعى عليه يدا بيد أو في محل سكناه لأحد أقاربه حيث لم يجده، ويبين موضوع الاستدعاء وتاريخ التبليغ ويؤشر على كل ذلك [1].

وقد حدا المشرع المغربي حدو إجراءات التبليغ المعتمدة في الفقه المالكي في استدعاء المدعى عليه إلى جلسة المحاكمة وفي تسليم الاستدعاء إلى الشخص نفسه أو في موطنه أو في أي مكان آخر يوجد فيه وفي إرفاق الاستدعاء بشهادة أو قسيمة تحدد الشخص الذي قام بالتبليغ وفي أي تاريخ، ويجب أن توقع هذه الشهادة من الشخص الذي تسلمها وكذا من الشخص الذي قام بتسليمها، وكما تسري هذه القواعد في الميدان المدني فهي تطبق كذلك في الميدان الزجري بدليل  المادة 308 من قانون المسطرة الجنائية [2].

ويختلفان أولا في أن المشرع المغربي أضاف بيانات أخرى يستوجب تضمينها بالاستدعاء وهي أولا  المحكمة التي يجب أن تبت في النزاع؛ ويوم وساعة الحضور، وثانيا في المدة  الفارقة ما بين تبليغ الاستدعاء واليوم المحدد للحضور للمحاكمة حيث حددها المشرع المغربي في أجل خمسة أيام إذا كان للطرف موطن أو محل إقامة في مكان مقر المحكمة الابتدائية أو بمركز مجاور لها ومدة خمسة عشر يوما إذا كان موجودا في أي محل آخر من تراب المملكة[3]، غير انه إذا تعلق الأمر بالمجال الزجري فانه لا يجب أن تقل هذه المدة عن ثمانية أيام إذا كان المتهم يسكن بالمملكة المغربية[4].

ويستنتج مما سبق أن فقهاء المالكة وقضاتها كانوا أنبه بأهمية التبليغ في حل النزاعات ولعل باعث تحديدهم لأجل يومين على الأقل لحضور المدعى عليهم للمحاكمة هو للتعجيل بالنظر فيها، أما المستجدات التي جاء بها قانون المسطرة المدنية، من توسيع بيانات الاستدعاء و تمديد آجال الحضور لإجراءات المحاكمة، فان ذلك اقتضاه التطور الذي عرفته الحياة في جميع مجالاتها، وفرضته ضرورة إحاطة المدعى عليهم علما في القضايا المدنية، أو المتهمين في القضايا الزجرية  بسبب استدعائهم و لتمكينهم كذلك من آجال معقولة لتهيء دفاعهم، وتسهيل حضورهم للجلسات عبر تحديد تاريخ ومكان المحاكمة .

ثانيا: في إلزامية الحضور لجلسات المحاكمة

جاء في النوادر والزيادات أن أحد القضاة أرسل إلى شخص عليه دعوى، فلبث في داره واختفى فيها، فصاح رسول القاضي على من في داره من حيث يسمع" هذا طابع القاضي فاخرج إلينا" فلم يخرج وصاح بأنه مريض، فتأنى فيه القاضي أياما ثم أرسل إليه ثانية فقال له:  يقول لك القاضي : إن كنت مريضا فابعث بشاهدين يشهدان أنك مريض وإلا فاخرج تخاصم، فأبدى موافقته بإرسال شاهديه، إلا أنه أخلف وعده، فبعث إليه القاضي مجددا أنه لا يؤخره أكثر من يومه هذا، فلما رأى ذلك هرب ليلا، فذكر ذلك للقاضي، فأمر بعقل جميع ضياعه ( أمواله) من دور وحوانيت، وأشعر من يسكنهما بإخراج ما لهم فيها ومنحهم أجلا لذلك. وعقل هذه الدور إنما هو لإجبار الخصم على الحضور للمحاكمة، وكان عمر رضي الله عنه يقول للرجل الذي يعقل عليه :  قد عقلت عليك موضع كذا وكذا فاحذر الحدث فيه، فإن أحدث فيه أدبه[5]، وإذا لم يحضر الخصم في جميع الأحوال عين له القاضي وكيلا لينوب عنه .

يقول الناظم[6]     :

إذ يختفي خصم ببيت فأرسلن  ****  عـــــــدولا مـــع مــــــن ينـــــادي ألا ألا

لــتـحـــضر وإلا فالـــــــوكيـــل ثلاثــــــــة ****  يقام وبعد احكم ويمشي وحصلا

أما في التشريع المغربي فإنه لا يمكن مطلقا  للقاضي  أن يأمر بعقل أموال المدعى عليه إذا امتنع عن الحضور لجلسة المحاكمة، وإنما إذا توصل المدعى عليه بالاستدعاء ولم يحضر وكان الحكم قابلا للاستئناف، وتوفرت  للمحكمة العناصر الكافية للفصل في مطالب المدعي بتت في موضوع النزاع ويكون الحكم الصادر بمثابة حضوري في مواجهة المدعى عليه [7].

وإذا كان العقل الذي دأب عليه قضاء المالكية الأجلاء بمثابة حجز تحفظي على أموال المدعى عليه لإلزامه للحضور للدفاع عن نفسه، فإن الحجز التحفظي في القانون المغربي لا يكون إلا لضمان أداء الديون لا لحضور الجلسات، والمقصود منه وضع يد القضاء على المنقولات والعقارات التي انصب عليها الحجز وتجميدها ومنع المدين من التصرف فيها تصرفا يضر بدائنه تأسيسا على القاعدة القانونية التي تقضي بأن أموال المدين ضمان عام لدائنيه [8] .

 أما في القضايا الزجرية فإنه إذا ثبت بالأدلة والحجج أن المتهم أتى فعلا جرميا فإنه يمكن لقاضي النيابة العامة أو لقاضي التحقيق بناء على ملتمس النيابة العامة، إذا كانت الجريمة المرتكبة خطيرة أو إذا لم تتوفر في مرتكبها ضمانات كافية للحضور أن يودع المتهم في السجن ليضمن حضوره لإجراءات المحاكمة أو التحقيق، كما يمكن لهما أن يحددا له ضمانة مالية أو شخصية .

وإجراءات عقل العقارات في التشريع المغربي لا تتخذ لحضور جلسات المحاكمة، بل يلجأ إليها في بعض القضايا أهمها الجرائم التي تمس الملكية العقارية، كما هو الحال في جرائم تزوير الأوراق الرسمية أو العرفية أو تزوير الوثائق الإدارية والشهادات متى انصب موضوعها على الملكية العقارية، وأوكل المشرع مهمة تفعيل مسطرة عقل العقارات إلى كل من رئيس المحكمة الابتدائية أو الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف كلما تعلق الأمر بالبحث التمهيدي أو التلبسي في جريمة من الجرائم الماسة بحق الملكية،  وكذا إلى قاضي التحقيق حيث يخول للنيابة العامة أن تلتمس إصدار أمر بعقل العقارات خلال مطالبتها بإجراء التحقيق أو خلال سريان إجراءاته، كما يمكن للمحكمة المعروضة عليها القضية أن تأمر تلقائيا بعقل عقار من العقارات إما تلقائيا أو بناء على ملتمس من النيابة العامة أو بطلب من أحد الأطراف، ويترتب عن الأمر الصادر بعقل العقار أثر محصن لحق الملكية يتمثل في منع التصرف فيه طيلة مدة سريان إجراءات العقل، وكل تصرف فيه بعوض أو بغير عوض يكون باطلا وعديم الأثر [9].

الفقرة الثانية  : في إقرار الخصم وتعجيل إصدار الأحكام

سنتطرق في هذه الفقرة إلى إقرار الخصم وإعذاره _أولا_ ثم إلى تعجيل إصدار الأحكام _ثانيا_.

أولا: في الإقرار والإعذار

يقول الشيخ خليل : فإن أقر، فله الإشهاد عليه  وللحاكم تنبيهه عليه... وأعذر إليه : بأبقيت تلك حجة، ويعجزه الا في دم وحبس وعتق ونسب وطلاق.

ومؤدى قوله ''إن أقر فله الإشهاد عليه وللحاكم تنبيهه عليه'':  أن المدعى عليه إن هو أقر بما ادعاه المدعي فلهذا الأخير أن يلتمس الإشهاد على ذلك في سجل القاضي حتى لا ينكر فيما بعد، وللقاضي أن ينبهه لذلك أن غفل عنه وليس في ذلك أي مساس بمبدأ الحياد لأنه يحصن الحقوق ويقطع النزاعات [10].

ومعنى ''وأعذر إليه بأبقيت لك حجة''  : أن القاضي ينذر الخصوم لتقديم ما لديهم من حجج وإثباتات ويضرب لهم أجلا لذلك، ولا يحكم القاضي في قضية معينة إلا بعد إمهال أطراف الدعوى، وهي دعوة لهم لمراجعة الحجج والمطالب وتدارك ما يمكن تداركه [11].

وإذا لم يأت الخصم بالحجة داخل الأجل المضروب له فإن القاضي يعجزه أي يشهد عليه بالتعجيز وذلك بعدم قبول أي دليل يأتي به، ويكتب ذلك في سجله، بأن يقول : وادعى أن له حجة وأنظرناه فلم يأت بها فحكمنا بعجزه فلا تسمع له بينة بعد ذلك، وقيل أنه تسمع له إذا حلف أنه لم يعلم بها  والتعجيز جائز في جميع القضايا إلا في خمس وهي الدم، الوقف، العتق، النسب والطلاق [12]

وخلافا لما تقدم ففي التشريع المغربي فالإقرار يعد من وسائل الإثبات المحددة في الفصل 404 من قانون الالتزامات والعقود [13]، وعليه فإذا أقر المدعى عليه في القضايا المدنية بما ادعاه المدعي فإن القاضي يثبته عليه مباشرة، دونما الحاجة أن يطلب الأطراف منه ذلك على خلاف ما أشرنا إليه آنفا بخصوص الاجراءات القضائية المالكية التي تشترط أن يطلب الأطراف من القاضي تضمين الإقرار في السجل المعد له، بل قد يعتمد القاضي على الاقرار الضمني المستشف من المذكرات والوثائق التي يدلي بها المدعى عليه، او  من سكوته عندما يدعوه القاضي صراحة إلى الإجابة عن الدعوى الموجهة إليه فيلوذ بالصمت، ولا يطلب أجلا للإجابة عنها.

أما في القضايا الجنائية فإذا اعترف المتهم بالمنسوب إليه دون اكراه أو ضغط وأمام القاضي الذي ينظر في الملف، فإن اعترافه هذا يكون كافيا للحكم ضده  بالعقوبة الخاصة بالجريمة التي هو  متابع بها .

وكما هو الأمر بالنسبة للفقه المالكي فإنه في قانون المسطرة المدنية ينذر القاضي الأطراف لكن في حالات محددة حصرا في الفصل 32 من قانون المسطرة المدنية[14] ويتعلق الأمر بتحديد البيانات غير التامة أو التي تم إغفالها، أو للإدلاء بنسخ المقال الكافية وذلك داخل أجل يحدده، تحت طائلة الحكم بعدم قبول الدعوى، وبمفهوم المخالفة فإن القاضي لا يلزم بإنذار الأطراف للإدلاء بما لم ينص عليه في الفصل المذكور التزاما بمبدأ الحياد المفروض عليه[15].

ثانيا : في تعجيل إصدار الأحكام

جاء في الشرح الصغير للإمام أحمد الدردير وفي الشامل في فقه الإمام مالك لبهرام أن على القاضي وهو ينظر في قضايا الخصوم أن يبدأ بالأهم منها فالأهم، كالمسافر يقدمه على من سواه لضرورة سفره، ويقدم القضايا التي يكون محلها ما يخشى فواته  كالطعام الذي يسرع إليه التلف، وإذا اجتمع المسافر وما يخشى فواته قدم الأهم منهما[16] .

أما الآن وعلى خلاف ما كان عليه العمل قديما حيث كانت بعض المناطق تتوفر على قاض واحد  ينظر في جميع القضايا المرفوعة إليه، فإن التنظيم القضائي المغربي أصبح متفرعا من عدة محاكم، منها المحاكم الابتدائية ذات الولاية العامة والتي تتجزأ بدورها بحسب القضايا التي تختص بالنظر فيها إلى أقسام قضاء الأسرة وأقسام قضاء القرب، وغرف مدنية وتجارية وعقارية واجتماعية وزجرية، ومنها أيضا المحاكم الإدارية والتجارية، ومحاكم الاستئناف العادية والمتخصصة، ومحكمة النقض التي تتموقع في أعلى الهرم القضائي، وتتوفر هذه المحاكم جميعها على عدة قضاة ينظرون في القضايا المرفوعة إليهم، وبهذا التوزيع المحكم تعالج جميع القضايا خلال الأمد القضائي المعقول [17] أما القضايا ذات  الصبغة الاستعجالية القصوى فقد وضع لها المشرع قضاء مستقلا بها وهو القضاء الاستعجالي للنظر في الإجراءات الوقتية  للملفات التي لا تحتمل التأخير، ويرتكز هذا القضاء الذي أخذ مكانه إلى جانب قضاء الموضوع على السرعة في البت والبساطة في الإجراءات والاختصار في المواعيد والقلة في النفقات[18] .

 

المطلب الثاني : في الطعن في الأحكام والصلح وعدم قضاء القاضي بعلمه

يعد الطعن مسلكا وضعه المشرع المغربي لتمحيص الأحكام ومراقبتها وتعديلها طبقا للقانون ووفق ما يبسطه الطاعن من وسائل ومسببات، غير أن مؤسسة الطعون كما هي معروفة اليوم بتميز سبلها وآثارها تختلف تماما عما كانت عليه في النظام القضائي الفقهي المالكي، وينصرف هذا الاختلاف أيضا إلى مؤسسة الصلح وإلى مدى إمكانية قضاء القاضي بعلمه في القضايا المعروضة عليه .

الفقرة الأولى : في الطعن في الأحكام

يقول الشيخ خليل : ورفع الخلاف لا أحل حراما  ... ونقض وبين السبب مطلقا ما خالف قاطعا أو جلي قياس

ومفاد قوله " ورفع الخلاف لا أحل حراما ": أن حكم القاضي يرفع الخلاف وينهي النزاع غير أنه لا يجوز لهذا الحكم أن يحل حراما، والشرط في الأحكام حتى ترفع الخلاف ألا تكون قد خالفت نصا قطعيا في الكتاب أو السنة أو ناقضت إجماعا أو قياسا جليا .

ولاستيعاب المغزى من قوله ''ونقض وبين السبب مطلقا ما خالف قاطعا أو جلي قياس'' لابد من الإشارة إلى أن القاضي العدل العالم لا تنقض أحكامه من حيث المبدأ، أي لا يُنظر فيها ممن يأتي بعده لئلا يكثر الهرج والخصام وتفاقم الحال اللهم إذا كانت جائرة[19]، غير أنه إذا مات أو عزل، وولي بعده غيره فرفع إليه شيء من أحكام العدل العالم أو رفع له شيء من أحكامه هو، وأعاد النظر فيها فوجد فيها ما يخالف  نصا قطعيا من كتاب أو سنة أو إجماعا أو قياسا جليا[20]، فعليه أن ينقضه وجوبا ويبين السبب الذي نقضه لأجله .

أما في قانون المسطرة المدنية المغربي فإن الأحكام القضائية لا تنهي النزاع إلا حين اكتسابها لقوة الشيء المقضي به وصيرورتها قابلة للتنفيذ، وقد تنفذ استثناءً رغم عدم اكتسابها لهذه القوة إذا كانت مشفوعة بالتنفيذ المعجل.

    وإذا كان مصطلح النقض في الفقه المالكي يرمي مدلوله إلى مجرد اعادة النظر في حكم معين، فإن الطعن  بالنقض في القانون المغربي هو نوع من أنواع الطعن في الأحكام، وتوجد إلى جانبه طرق أخرى عادية وغير عادية لها كلها مقتضياتها الخاصة وقواعدها الناظمة، ولا يشترط لإعادة النظر في الأحكام موت القاضي الذي أصدرها أو عزله كما هو الأمر في القضاء المالكي، وإنما يحق لكل شخص تضررت مصالحه جراء الحكم الصادر في الدعوى أن يسلك سبل الطعن المتاحة له.

ولئن صح اعتبار طرق الطعن مسألة محمودة بالنظر إلى المقصد الذي وضعها المشرع لإحقاقه من تمحيص الأحكام والقرارات ومراقبة مدى احترام القواعد الموضوعية والمسطرية التي سبقت النطق بها، فقد يتخذها البعض رغم علمه بعدالة الحكم ذريعة للتقاضي بسوء نية وتمديد آجال التقاضي، وهذا ما يقتضي تمتين الترسانة القانونية المنظمة لمؤسسة الطعون وسد ثغراتها أسوة بنظيرتها في القضاء المالكي .

الفقرة الثانية: في الصلح وعدم قضاء القاضي بعلمه

سنتطرق في هذه الفقرة للفروقات بين الفقه المالكي والقانون المغربي بخصوص الصلح القضائي _اولا_ وفي عدم قضاء القاضي بعلمه _ ثانيا_ .

أولا : في الصلح

يقول الشيخ خليل : وأَمَرَ بالصلحِ ذوي الفضل والرحم كأن خشي تفاقم الأمر، ولا يدعو إلى الصلح إن ظهر وجهه.

و نظم ابن عاصم[21] :

وليـــــــــس بالجــــائــــــز للـــقـــاضـــــي اذا*** لم يـــــبد وجـــــه الحـــــكــــم أن ينـــــفذا

والصلــــح يســـــــتدعـــــى له إن أشكلا **** حكـــــــم وإن تعــــــــين الحـــــــق فلا

ومعناه ركون القاضي إلى الصلح بين ذوي الأفضال والأرحام درءا للشحناء والتفرق وجلبا لجمع الخواطر وتأليف النفوس، كما قال عمر ابن الخطاب رضي الله عنه : رددوا القضاء بين ذوي الأرحام حتى يصطلحوا فإن فصل القضاء يورث الضغائن، فإذا خشي القاضي تفاقم العداوة وتعاظمها دعا إلى التصالح ولو ظهر وجه الحكم الذي سيصدر عنه [22]، وإن لم يخش ذلك ولو كانت الدعوى بين الأقارب وظهر له وجه الحكم فلا يدعو إليه[23]، ولا يلزمه ويلحه على أطراف النزاع إلحاحا إذا أبى أحدهما الصلح بل يفصل بينهما بالواجب[24].

أما في التشريع المغربي وخلافا لما تقدم من قول الشيخ خليل فإن للقاضي أن يدعو إلى الصلح في جميع القضايا بدون استثناء ودون تمييز سواء تعلق الأمر بالقضايا المدنية أو القضايا الزجرية[25]، و سواء تعلق الأمر بالأقارب أم بالأباعد، وسواء ظهر له وجه الحكم أم لم يظهر له، غير أنه في قضاء القرب فإن دعوة القاضي إلى الصلح تكون على وجه الوجوب وذلك تطبيقا لمقتضيات المادة 12 من قانون قضاء القرب التي جاء فيها أنه '' يقوم قاضي القرب وجوبا، قبل مناقشة الدعوى، بمحاولة للصلح بين الطرفين. فإذا تم الصلح بينهما، حرر بذلك محضرا وتم الإشهاد عليه من طرفه [26] ''. 

وقد أصبحت دعوة القاضي الأطراف إلى الصلح أمرا ذا أهمية قصوى لما تعرفه المحاكم اليوم من كثرة القضايا وتشعب النزاعات، وهذه الدعوة قد تؤدي إلى نتائج ايجابية لما للقاضي في نفوس الأطراف من هيبة ومكانة قد تدفعهم لقبول الحل الذي يقترحه عليهم، كما أنها تحقق العدالة التي قد لا تتأتى بالأحكام القضائية .

والحقيقة أن إعمال الفقه المالكي لمكنة الصلح بين الأقارب بالأولوية على خلاف القانون الوضعي كما سبقت الإشارة، كان مرده ما يفيض به الصلح من خير وفضل بين الأقرب فالأقرب من الأقارب والجيران والأصدقاء[27]،  ومع ذلك فان هذا القول جاء على سبيل الترغيب ولا مانع من الدعوة إلى الصلح في جميع القضايا مهما تباعدت العلاقة بين أطرافها .

ثانيا: في عدم قضاء القاضي بعلمه

يقول الشيخ خليل : ولا يستند لعلمه إلا في التعديل والجرح

والمعنى منه أن القاضي لا يقضي بعلمه الشخصي ولو طابق الواقع فيما علمه بنفسه عن النازلة المعروضة عليه وإنما يبني حكمه على الأدلة و الحجج المدلى بها، إلا في التعديل والجرح في الشهود فله أن يعدل أو يجرحهما بما يعلمه بنفسه عنهم، فإن علم القاضي أن ما شهد به الشهود على خلاف الواقع فانه يرد شهادتهم بعلمه ولو كانا عدلان مشهوران بالعدالة  [28].

وقد جمع ابن عاصم هذه الأحكام في بيتين فريدين جاء فيهما [29] :

 

وفي الشهود يحكم القاضي بما **** يعلم منهم باتفاق العلما

وفي سواهم مالك قد شددا ****في منع حكمه بغير الشهدا

 

أما في التشريع المغربي فان عدم قضاء القاضي بعلمه لا يستند على أي نص تشريعي صريح، وإنما يستمد روحه من الالتزام بالحياد الواقع على عاتق القضاة، ويقصد بالحياد كما عرفته مدونة الأخلاقيات القضائية أداء الوظائف القضائية طبقا للوقائع المعروضة وطبقا للقانون، دون أي تحيز أو تحامل أو محاباة اتجاه أي طرف من أطراف الدعوى وعدم اتخاذ أي موقف من شأنه التشكيك في سير إجراءات الدعوى ومصداقيتها[30].

       ويعد الحياد أمرا أساسيا لضمان محاكمة عادلة ولتحقيق المساواة أمام القانون وعنصرا أساسيا للثقة في العدالة فضلا عن كونه واجبا دستوريا[31]، طبقا للمادة 117 من دستور المملكة المغربية التي تنص على أنه يتولى القاضي حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي وتطبيق القانون .

     و إذا كان عمل القاضي يتركز على تطبيق القانون تطبيقا صحيحا، فإن ذلك يقتضي منه تمحيصا وتدقيقا لوقائع النزاع المعروضة أمامه وإلباسها اللباس القانوني المناسب. وهو إذ يقوم بهذه العملية ليس له أن يسند قضاءه أو يستعين في أحكامه على معلوماته الشخصية ولو طابقت الواقع، ويسري هذا الحكم حتى في مواجهة الشهود ولو علم فيهم ما يعلمه القريب والبعيد  مما يبطل شهادتهم ويجرحها، كإن كانوا معروفين بشهادة الزور مثلا، وإنما يترك للأطراف مكنة إثارة ما يرونه من مبررات التجريح وينظر فيه على هذا الأساس طبقا للقانون .



[1] - محمد ابن عامر، ملخص الأحكام الشرعية على المعتمد من مذهب المالكية، الطبعة الثالثة  1992، ص 63 .

[2] - تنص المادة 308 من قانون المسطرة الجنائية على أنه يسلم الاستدعاء بالحضور للمتهم وللمسؤول المدني والطرف المدني طبقا لشروط المنصوص عليها في الفصول 37 و38 و39 من قانون المسطرة المدنية.

يتضمن الاستدعاء، تحت طائلة البطلان، بيان اليوم والساعة ومحل انعقاد الجلسة ونوع الجريمة وتاريخ ومحل ارتكابها والمواد القانونية المطبقة بشأنها.

[3] - يقضي الفصل 40 من قانون المسطرة المدنية على أنه  يجب أن ينصرم ما بين تبليغ الاستدعاء واليوم المحدد للحضور أجل خمسة أيام إذا كان للطرف موطن أو محل إقامة في مكان مقر المحكمة الابتدائية أو بمركز مجاور لها ومدة خمسة عشر يوما إذا كان موجودا في أي محل آخر من تراب المملكة تحت طائلة بطلان الحكم الذي قد يصدر غيابيا.

[4] - تنص الفقرة الأولى من المادة 309 من قانون المسطرة الجنائية على أنه يتعرض للإبطال الاستدعاء والحكم إذا لم يفصل بين تاريخ تبليغ الاستدعاء واليوم المحدد للحضور بالجلسة أجل ثمانية أيام على الأقل.

[5] -  أبي محمد عبد الله بن عبد الرحمان ابي زيد القيرواني، النوادر والزيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات، تحقيق محمد الأمين بوخبزة، ج 8، الطبعة 1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1999،  ص 132 وما يليها .

[6] - ميارة الفاسي، فتح  العليم الخلاق في شرح لامية الزقاق، تحقيق رشيد البكاري، الطبعة الاولى، دار الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، 2008  ،  ص237 وما يليها

[7] - أنظر الفصل 47 من قانون المسطرة المدنية .

[8]- ينص الفصل 453 من قانون المسطرة المدنية على أنه لا يترتب عن الحجز التحفظي سوى وضع يد القضاء على المنقولات والعقارات التي انصب عليها ومنع المدين من التصرف فيها تصرفا يضر بدائنه ويكون نتيجة لذلك كل تفويت تبرعا أو بعوض مع وجود الحجز باطلا وعديم الأثر.

[9] - أنظر دورية رئاسة النيابة العامة عدد 32 س / ر ن ع، بتاريخ 13 سبتمبر 2019 .

[10] -  عبد الرحمان بلعكيد، التقاضي السلطة بين السلطتين، دراسة مسطرية في ضوء المذهب المالكي والتشريع المغربي، الطبعة الاولى، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2018، ص 197.

[11] - سحنون بن سعيد التنوخي، م س، ص 132 .

[12] - أبن جزي، القوانين الفقهية، ص 200 .

[13] - وسائل الإثبات التي يقررها القانون هي:

1 - إقرار الخصم؛

2 - الحجة الكتابية؛

3 - شهادة الشهود؛

4 - القرينة؛

5 - اليمين والنكول عنها.

[14] - ينص الفصل 32 من قانون المسطرة المدنية على أنه '' يجب أن يتضمن المقال أو المحضر الأسماء العائلية والشخصية وصفة أو مهنة وموطن أو محل إقامة المدعى عليه والمدعي وكذا عند الاقتضاء أسماء وصفة وموطن وكيل المدعي، وإذا كان أحد الأطراف شركة وجب أن يتضمن المقال أو المحضر اسمها ونوعها ومركزها.

 يجب أن يبين بإيجاز في المقالات والمحاضر علاوة على ذلك موضوع الدعوى والوقائع والوسائل المثارة وترفق بالطلب المستندات التي ينوي المدعي استعمالها عند الاقتضاء مقابل وصل يسلمه كاتب الضبط للمدعي يثبت فيه عدد المستندات المرفقة ونوعها .

إذا قدم الطلب بمقال مكتوب ضد عدة مدعى عليهم وجب على المدعي أن يرفق المقال بعدد من النسخ مساو لعدد الخصوم.

يطلب القاضي المقرر أو القاضي المكلف بالقضية عند الاقتضاء تحديد البيانات غير التامة أو التي تم إغفالها، كما يطلب الإدلاء بنسخ المقال الكافية وذلك داخل أجل يحدده، تحت طائلة الحكم بعدم قبول الطلب .

[15] - عبد السلام بناني، سعيد الفكهاني، العباسي العلوي، عبد العزيز توفيق، عبد الباسط جميعي، عزة حسن الفكهاني، شاكر الناصري، محمد عبد الحميد، التعليق على قانون المسطرة المدنية المغربي على ضوء الفقه والقضاء، ج 1، الطبعة الأولى 1983،   203

[16] - ابي البركات احمد بن محمد بن أحمد الدردير، الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك، بحاشية العلامة أحمد الصاوي المالكي، تنسيق مصطفى كمال وصفي، ج 4، مطبعة دار المعارف، القاهرة، 1986، ص 205.

- بهرام ، مرجع سابق، ص 842 .

[17]  - والبت في القضايا في أجل معقول هو ما أشارت إليه المادة 17 من مدونة الأخلاقيات القضائية اللهم إذا كانت القضية مما يستلزم الأناة والتريث وإفساح الكثير من الوقت للمتقاضين والقضاة لتمحيص الدعوى وتقليب أوجه النظر فيها والالتجاء لطرق تحقيق الدعوى .

[18] - عبد اللطيف هداية الله،  القضاء المستعجل في القانون المغربي، الطبعة الأولى، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 1998 ص 9 وما يليها.

[19] - سحنون بن سعيد التنوخي، المدونة الكبرى، ج 12، إصدار وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية، ص 149 .

-  محمد عرفة الدسوقي، م س، ص 153 .

[20] - ومثال مخالفة الإجماع كما لو حكم بأن الميراث كله للأخ دون الجد، فهذا خلاف الاجماع، لأن الأمة على قولين وهما أن المال كله للجد أو يقاسم الأخ، وأما حرمان الجد بالكلية فلم يقل به أحد، ومثال مخالفة القواعد كمن يجعل طلاق الثلاث كطلقة واحدة، ومثال مخالفة النص إذا حكم بشفعة الجار لكون الجديث الكريم خص الشفعة بالشريك دون غيره، ومثال مخالفة القياس إذا قبول شهادة الفاسق والكافر .

- انظر عبد الرحمان بلعكيد، م س، ص 238.

- للمزيد من التفصيل يراجع برهان الدين ابي الوفاء ابراهيم، مرجع سابق ، 62 وما يليها .

 

[22] - محمد عرفة الدسوقي، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، ج 4، مطبعة دار احياء الكتب العربية،  ص 152.

- عبد اللطيف إدزي، الصلح القضائي في القانون المغربي بين التأصيل والتطبيق العملي، الطبعة الاولى، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 2008، ص 50 .

[23] - ابي عبد الله محمد بن أحمد ميارة الفاسي، م س، ص 220 .

[24] - برهان الدين ابي الوفاء ابراهيم، تبصرة الحكام في أصول الاقضية ومناهج الأحكام، تحقيق جمال رعشلي، ج 2، ص 54 .

- أنظر أيضا : بهرام بن عبد الله الدميري، الشامل في فقه الإمام مالك، ضبطه وصححه أحمد نجيب، ج 2 ، الطبعة الاولى 2008، ص 841 .

[25] - والحقيقة أنه قبل التعديل الذي طرأ على قانون المسطرة الجنائية سنة 2003 كان يعرف حالات محدودة يتم فيها الصلح والشكل الذي كان معروفا في هذا الإطار هو تنازل الضحية عن شكايته متى كانت هذه الاخيرة لازمة لتحريك الدعوى العمومية، كما هو الحال بالنسبة لجريمة الإمساك العمدي عن أداء النفقة لمستحقها وجنحة الخيانة الزوجية والسرقة بين الأقارب واستعمال ناقلة دون اذن مالكها، وينتج عن التنازل عن الشكاية سقوط الدعوى العمومية الا ان المشرع بمقتضى قانون المسطرة الجنائية الجديد نظم مسطرة جديدة للصلح في بعض الجنح وهي التي حددتها المادة 41 من القانون السالف الذكر وهي الجنح التي يعاقب عليها القانون بسنتين حبسا او اقل او بغرامة لا يتجاوز حدها الاقصى خمسة الاف درهم .

[26] - تنص المادة 12 من قانون قضاء القرب على أنه يقوم قاضي القرب وجوبا، قبل مناقشة الدعوى، بمحاولة للصلح بين الطرفين. فإذا تم الصلح بينهما، حرر بذلك محضرا وتم الإشهاد به من طرفه.

[27] - عبد الرحمان بلعكيد، م س ، ص 21.

[28] - بهرام، مرجع سابق، ص 840 .

-   يراجع أيضا عبد السلام العسري، شهادة الشهود في القضاء الاسلامي، ج 1، الطبعة الاولى، مطبعة دار القلم، الرباط، 2007، ص 248.

[29] - ابي بكر محمد بن محمد بن محمد ابن عاصم الاندلسي، تحفة الحكام في نكت العقود والأحكام، تحقيق محمد عبد السلام محمد، الطبعة الاولى، دار الآفاق العربية، القاهرة، 2011، ص 19.

[30]  - المادة 6 من مدونة الاخلاقيات القضائية .

[31] - المادة 7 من مدونة الاخلاقيات القضائية .

1 تعليقات

أحدث أقدم