مبدأ القناعة الشخصية للقاضي الزجري


ذة/عائشة سعدي - محامية متمرنة
يعد مبدأ القناعة الشخصية للقاضي الزجري من المبادئ الراسخة في المادة الجنائية، ويقصد به أن القاضي الجنائي حر في أن يستعين بأي وسيلة من وسائل الإثبات لتكوين قناعته الشخصية للوصول إلى الحقيقة.

وكباقي التشريعات المقارنة عمد المشرع المغربي إلى الأخذ بهذا المبدأ من خلال تنصيصه في المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية أنه " يمكن إثبات الجرائم بأي وسيلة من وسائل الإثبات، ما عدا في الأحوال التي يقضي فيها القانون بخلاف ذلك، ويحكم القاضي حسب اقنتاعه الصميم ويجب أن يتضمن المقرر ما يبرر اقنتاع القاضي ... و إذا ارتأت المحكمة أن الإثبات غير قائم صرحت بعدم إدانة المتهم وحكمت ببراءته".

فانطلاقا من هذه المادة يتضح أن المشرع المغربي عمد إلى عدم حصر وسائل الإثبات التي يمكن الإعتماد عليها لإثبات واقعة معينة أو نفيها، وذلك لأن موضوع الإثبات هو الجريمة باعتبارها واقعة قانونية يصعب حصر الإثبات فيها بوسائل محددة سلفا، باستثناء الحالات التي حددها المشرع ونخص بالذكر هنا مقتضيات الفصل 493 من مجموعة القانون الجنائي الذي نص على أن جريمتي الفساد والخيانة الزوجية لا يمكن إثباتهما إلا بناءا على محضر رسمي ينجزه أحد ضباط الشرطة القضائية في حالة تلبس أو بناءا على إعتراف تضمنته مكاتيب أو أوراق صادرة عن المتهم أو اعتراف قضائي.

والقناعة الشخصية للقاضي الزجري تتكون لديه من خلال اعتماده على أسلوب منهجي علمي للكشف عن الروابط السببية بين الوقائع ومضمون النصوص القانونية، وذلك للوصول إلى المعرفة العلمية الواقعية.

ذلك أن حرية القاضي الزجري في تكوين قناعته الشخصية هي الأساس في ممارسة دوره الإيجابي السليم في الإثبات، وهي التي تقوم عليها سلطة تقدير الأدلة، بحيث تقام هذه القناعة على أسس علمية موضوعية يخرج فيها القضاء من القيود القانونية المفروضة عليه حيث تترك له الحرية في الإستقصاء والبحث عن الأدلة دون تحديد مسبق لنوعها ولحجيتها، ذلك أن مثل هذا التحديد يتنافى مع الأساس الذي تقوم عليه عملية تقدير الأدلة ألا وهي القناعة القضائية.

ولهذا نجد أن ما يخوله القانون من حرية للقاضي في تقدير نشاطه الإجرائي وجعل هذا النشاط أوسع نطاقا في المسائل الإجرائية فليس من الشك أن هذه الحرية الإجرائية الممنوحة للقاضي كسلطة تقديرية إنما تتعلق بكل الإجراءات التي ينطوي عليها التحقيق بما فيها تقدير مدى كفاية الأدلة من عدمها.

والقاضي الزجري وهو بصدد تكوين قناعته الشخصية ملزم بمراعاة مجموعة من القواعد أهمها ما نصت عليه المادة 286 من قانون المسطرة الجنائية والتي جاء فيها أنه " لا يمكن للمحكمة أن تبني مقررها إلا على حجج عرضت أثناء الجلسة ونوقشت شفهيا وحضوريا أمامها"، فالأدلة التي تطرح على المحكمة يجب أن تخضع للمناقشة بحضور جميع الأطراف وبطريقة شفوية حتى يتمكنوا من تقديم الأدلة والرد عليها، وذلك على اعتبار أن العدالة تفرض أن يكون الحكم قد جاء بعد اقتناع سليم استقر بعد مناقشة حرة ومتكافئة.

ومن القواعد التي يتعين التقيد بها كذلك ما نصت عليه المادة 287 من قانون المسطرة الجنائية والتي أكدت أن "ثبوت الجريمة إذا كان يتوقف على دليل تسري عليه أحكام القانون المدني أو أحكام خاصة فالمحكمة لابد وأن تراعي ذلك".

فقد تثار أمام القاضي الزجري مسألة تتعلق بفرع من فروع القانون الأخرى، ويستلزم الفصل في الدعوى العمومية ضرورة الفصل فيها أولا، و على القاضي في مثل هكذا حالات أن يتقيد بالقواعد المرتبطة بهذه المسائل وذاك بتطبيق وسائل الإثبات الخاصة بها.

وتشكل قاعدة " كل شك يفسر لمصلحة المتهم"المنصوص عليها في الفقرة الثانية من المادة الأولى من قانون المسطرة الجنائية أحد أهم القواعد الأساسية التي يتعين التقيد بها من طرف القاضي الجنائي وهو بصدد تكوين قناعته الشخصية، هذه الأخيرة يجب أن تبنى على اليقين وليس مجرد الشك والتخمين، واليقين هو الاقتناع المستند إلى حجج ثابتة وقطعية ذلك أن الغاية من الدعوى هي الوصول إلى الحقيقة عن طريق الاقتناع اليقيني بصحة ما ينتهي إليه الحكم الزجري، ومن الثابت أن الأحكام يجب أن تبنى على الجزم الذي يثبته الدليل المعتبر وليس مجرد الإحتمالات المجردة، واليقين المطلوب ليس اليقين الشخصي فقط بل وحتى اليقين القضائي، الأول يتمثل في ما اطمئن إليه ضمير القاضي، أما الثاني فيستمد من الأدلة التي اقتنع بها القاضي.

وتعد شرعية الدليل باعتباره كل ما يؤدي إلى الكشف عن الحقيقة ويعمل على إظهارها، من الشروط الأساسية التي ينبغي التقيد بها، ذلك أن طريق الوصول إلى الحقيقة ينبغي أن تحترم فيه حقوق الدفاع وحماية الكرامة الإنسانية، وبناءا على ذلك لا يجوز للقاضي أن يبني حكمه على دليل مستمد من إجراء غير مشروع كيف ماكان، وعليه يتعين أن يكون عقيدته ويبني اقتناعه على أدلة مشروعة ومستمدة من إجراءات صحيحة تراعى فيها الضمانات الأساسية.
أحدث أقدم