علم النفس القانوني: الفرع المنسي في الدراسات القانونية المغربية



بقلم :ذ ياسين آيت مبارك  - مستشار قانوني


يخفى على العديد من الباحثين والمتخصصين في الدراسات القانونية إستبيان الاصرة  ما بين القانون"Law وعلم النفس" psychology "، وهو ما دفعني نحو هذا المجال لاكتشافه مزاوجة مسيرتي الجامعية لدراسة القانون وعلم المفس معا،لذلك سوف أبدأ بتعريف بسيط لكليهما ليتضح لنا الرابط بينهما.
 فالقانون باعتباره تنظيما للمجتمع وضابط للعلاقات بين أفراده  إذ لا يمكن الاستغناء عنه  حيث ينظم ويوجه السلوك  وما يجب فعله وتجنبه ،أما علم النفس فهو ذلك العلم الذي يدرس السلوك الإنساني بمظاهره الحسية والعقلية حسب "carrette"والهدف من هذا العلم هو التحليل والقياس والتنبؤ وتعديل السلوك البشري .
 وتأسيسا على ما سبق تكمن لدينا نقطة التلاقي والارتكاز بين العلمين والذي يعتبر الإنسان  محور هذان العلمان اللذان يسبحان في فلك العلوم الإنسانية والاجتماعية، مما جعل علم النفس ركنا مهما في الدراسات القانونيه لدرجة انصهارهما لتظهر العديد من فروع القانون الجامعة لهما كعلم الإجرام والعقاب ، علم النفس القضائي وأيضا علم النفس القانوني محور هذه المقالة.
فما هي أهم المواضيع التي اهتم بها علم النفس القانوني ؟ ،وهل استفاد نظام العدالة في المغرب منه ؟  وأين أبرز تجلياته في الواقع العملي ؟   
وللإجابة على هذه التساؤلات سوف أركز الموضوع على خمس مستويات وهي على النحو التالي :
أولا : علم النفس القانوني النشأة التاريخية ومتطلبات البروز
تانيا: علم النفس القانوني وهاجس إستقرار القاضي
ثالثا : المجرم المنتهي وتعامل علم النفس القانوني .
رابعا:سياسة الإعتقال وعلم النفس القانوني أي علاقة ؟
خامسا: الهندسة القانونية النفسية .

      أولا : علم النفس القانوني- النشأة التاريخية ومتطلبات البروز. -

    بصفة عامة فعلم النفس القانوني هو المجال الذي ينصب بشكل أساسي على بدل الجهد لتطوير فلسفة القانون والعدالة على أساس القيم النفسية الإنسانية إذ يهدف هذا العلم الى تطبيق نتائج نظريات وأبحاث علم النفس على نظام العدالة ، وكان من السباقين لدراسة العلاقة بين علم النفس والقانون الطبيب الفرنسي"  alfred binet" (1857-1911) في نهايه القرن التاسع عشر  وتضمن بحثه إجراء دراسات نفسية قانونية   " études psychojuridique" ، إذ أصبح لعلم النفس القانوني إمكانية العمل في بيئة متعددة التخصصات من أجل سبر أغوار  النفس البشرية وتفسير الظواهر النفسية مما يحتاج لتظافر جهود علماء النفس والأطباء النفسيين بشكل عام وجميع التخصصات المهتمة بهذا المجال( كعلم الاعصاب ،الفلسفة،اللسانيات ..)  أما بالنسبة للفهم الجيد للظواهر القانونية  فلابد من مساهمة الأكاديميين والممارسين والباحثين في الدراسات القانونية .

     تانيا: علم النفس القانوني وهاجس إستقرار القاضي.

 تطرق علم النفس القانوني لمواضيع مختلفة  كذاكرة شهود العيان وما مدى موثوقيتها ، وكذلك تحليل نفسية القضاة اتجاه أدلة الدعوى وأطراف النزاع لتفادي ما يكمن وراء شعوره من دوافع الانحياز مما يؤدي إلى التجريم أو التبرئة ليحتفظ القاضي بالحياد في جميع مراحل الدعوى
ولعل من أبرز الأمثلة التي تجسد لآثار علم النفس في السلوك القضائي المغربي  هي تلك المرتبطة بنظام التقاضي حيث أن المشرع سار على نفس المنوال السابق الذكر مما جعله يتأرجح و يتقلب  فثارة يجعل من مبدأ القاضي الفرد هو القاعدة  وتعدد القضاه كاستثناء وثارة العكس ، غير أنه في قانون 34.10 لسنة 2011 جعل القضاء الفردي قاعدة وهذا راجع لاهتمام الشارع المغربي بالجانب السيكولوجي  للقاضي ومدى جودة الأحكام  ومن أهم الأسباب السيكولوجية لهذا الإختيار  أن انفراد القاضي بالحكم  يحمله على التروي و الإخلاص وخوفه من سهام الانتقاد  والمسؤولية الملقاة على عاتقه مما يجعله يحكم بعدل أكثر.  غير أن ما يؤاخد على القضاء الفردي  إمكانية سقوط القاضي في الذاتيه وتاثره باحد أطراف النزاع  وهذا ما سده المشرع من خلال أخذه  بمبدأ تعدد القضاة والذي يعتمد على التشاور  كما يضمن كمال المناقشة -الدقة والموضوعية-،  مما فيه من تقليل لغلبة عواطف القاضي على حكمه كالغضب الشديد  والهم أو التعاطف مع أحدهم ،كما أنه يظهر هيبة القضاء حينما يصدر الحكم أو القرار  باسم الهيئة القضائية  فيصعب الضغط عليهم بينما القاضي الفرد قد يكون عرضة للضغط ،وحسنا فعل المشرع بالمزاوجة بين النظامين عكس ما نهجته العديد من الدول الانجلوسكسونية إذ اكتفت بالقضاء الفردي.

   ثالثا : المجرم المنتهي وتعامل علم النفس القانوني .

 علاوة على ذلك فمن أهم الجوانب التي إقتحمتها الدراسات السيكولوجية وخلفت فيها آثار بارزة  هي المرتبطة بسياسة السجون والتعامل مع  النزلاء .و من أبرز هذه التجليات الزي الذي يرتديه المحكومون بالإعدام الذي لا يخرج عن أحد هذه الألوان من أحمر أو أصفر أو برتقالي لأن  امتدادها  يعرف بالألوان الدافئة وتعود هذه التسمية الى عامل نفسي فيزيولوجي  فالاحمر مثلا هو لون للدم والنار و هما مصدر للحرارة والحياة لذلك فمن خصائص هذه الألوان إنعاش الروح وإعطاء العزم  بالإضافة الى الإحساس بالدفء وتأمين الخطوات والتماسك .
و هناك شئ آخر في ما يخص عقوبة الإعدام و التي غالبا ما تنفذ فجرا في العديد من الدول فالأمر ليس ضربا من المصادفة وإنما لأسباب قانونية  وتنظيمية و دينية ,غير أن ما يهمنا هو الأسباب النفسية إذ يطغى على الشخص  في هذا الوقت حالة من السكون والهدوء والاستقرار النفسي والقابلية

رابعا:سياسة الإعتقال وعلم النفس القانوني أي علاقة ؟

وما يجب كذلك الإلمام به هو الخلفية الإجتماعية لعلم النفس القانوني ,  فكثيرا ما يرتبط اضطراب الصحة النفسية بالفقر ،البطالة ،العنف ،التمييز،الضغط ،الاقصاء الاجتماعي والإدمان على المخدرات مما ينتج عنه اختلال الصحة النفسية  ،حيث تدفع هذه الاضطرابات لخرق القوانين والإجرام  .
و في هذه الحالة قد يتم ادخال المرضى النفسيين الى السجن بمجرد ارتكابهم  مخالفات بسيطة  و في بعض الأحيان دون ارتكابهم لأي جرم، فبدلا من تقديم الرعاية الصحية المناسبة لهم يحدث العكس ، فبسبب تحيز نظام العدالة الجنائية نجد احتمالية تعرضهم للاعتقال أعلى من غيرهم كما أن نسبة حصولهم على السراح المشروط أقل من غيرهم ، ففي المغرب مثلا يمكن متابعة الشخص  بجنحة التسول وفقا لمقتضيات الفصل 326 ، أو بالاخلال العلني بالحياء العام وفقا للفصل 483 من مجموعة القانون الجنائي .
 * فقد حصل أن تم اعتقال شخص يعاني من مرض نفسي يعمل مدرسا للاقتصاد لم يشرع في تناول دواءه لعدم توفر العقاقير على المستوى المحلي مما سبب له تدهورا أسفر على، خروجه للشارع العام وهو يشتم ويلعن بصوت عال حتى تم القاء القبض عليه واتهامه بجنحه الاخلال العلني بالحياء العام.*
   فلا يجوز حبس الأشخاص الذين يعانون من أمراض نفسية  ففي حالتهم يجب الإحالة على مؤسسات خاصة بالعلاج يشرف عليها متخصصون، أما أولئك الذين يعانون من أمراض نفسية أقل حتى  فينبغي تحويلهم الى مسار بعيد عن نظام العدالة حيث ما كان ذلك مناسبا فإن كان ذلك غير ممكن ينبغي تفعيل بدائل للعقوبات بالتشاور مع أخصائي الصحة النفسية  للعقوبات .
إذ أنه من الراجح أن تؤدي التجربة السجنية الى ظهور أمراض واضطرابات نفسية جديدة  أو تفاقم الاضطرابات الموجودة سابقا .
هذا ما يحيلنا إلى الدراسة التي قام بها العالم" Philip zimbardo"  و زملاءه  سنة 1971  بهدف معرفه أثر السجن على الحالة النفسية للنزلاء, إذ تم تهيئة قبو ليكون أشبه بسجن و جلب طلاب متطوعين و تقسيمهم إلى مجموعتين ؛  مجموعة حراس السجن - ومجموعة النزلاء غير أنه تم إيقاف هذه التجربة نتيجة لتجاوزها الحدود وعلق المتطوعين على أن للسجن أثر نفسي شديد  وأنه من الضروري إصلاح نظام السجون .وتعرف هذه التجربة باسم "stanford prison experiment ."
 لهذا يجب توحيد كيفيات الإعتقال وظروف الاحتجاز   وتمتيع المعتقلين بشئ من الخصوصية وعدم سوء المعاملة لما تنتج عنه من أذى على صحة النزلاء .

خامسا :الهندسة القانونية النفسية .

   أما فيما يتعلق بالجانب التشريعي فيجب تفعيل عمل المختصين النفسيين جنبا إلى جنب  مع اللجان الخاصة بالتشريع  لتطوير الهندسة القانونية وتثمين السياسات التشريعية  فمثلا يمكن للاخصائي النفسي مرافقة المشرع لتحديد كيفية التعبير عن هذا القانون الذي يعالج شريحة معينة وبالتالي يعتبر بمثابة قانون منشئ وليس بمنزل كما هو الحال بالنسبة لأغلب القوانين الوضعية الموجودة في ساحة التشريع الوطنية.
 فمثلا قبل الشروع في تقنين القنب الهندي يجب التشاور مع علماء النفس لمعرفة الآثر الذي يحدثه التعاطي  على تطور المخ وتأثير على الرفع من مستوى بعض أنواع الجرائم .
وأخيرا فعلى مر السنين ، أدى الفهم الأكبر لعلم النفس والطب النفسي والسلوك البشري بشكل عام إلى إحداث تغييرات كبيرة في كيفية تفكير الخبراء القانونيين في القانون ، بالإضافة إلى تغييرات في كيفية علاج المرضى العقليين من قبل نظام العدالة الجنائية فأيننا نحن من هذا الركب و هل نستطيع مواكبة هذه التطورات ? هذا السؤال جوابه معروف لكنه غير مرغوب فيه …. .

لائحة المراجع المعتمدة :

-السلوك الارهابي بين القانون وعلم النفس (بحث نظري) ،2017، مجلة الآداب، عدد 120.
-Psychology Applied to Legal Evidence and Other Constructions of Law : Second Edition Revised and Re-Written in Parts (Classic Reprint).
-Psychology and law a critical introduction, Edie green,andreas kapardis, cambridge,2010, third edition.
-Mental health in prison: A short guide for prison staff.

أحدث أقدم