القانون الجنائي والتعديلات المتضمنة بمسودة مشروعه الجزء الأول


تمت مراجعة مجموعة القانون الجنائي بمقتضى مسودة المشروع المطروحة لتداول والنقاش والتي شهدت مجموعة من التعديلات والمراجعات المهمة مست بشكل كبير سياسة التجريم والعقاب
وقد ميز خروج المسودة إلى الرأي العام مناقشات كثيرة حيث تباينت الآراء واختلفت وجهات النظر، سيما وأن مجموعة القانون الجنائي الحالية مر عليها ردحا من الزمن ولم تشهد أية مراجعة جذرية باستثناء بعض التعديلات التي مست مواد تهم بعض الجرائم في حين ظلت الفلسفة التي تمثل الإطار العام للمشرع الجنائي هي الطاغية والموجهة.
وفي ظل الجدل والنقاش الدائر حول منظومة القانون الجنائي كما وردت في المسودة أثرنا الانخراط في هذا النقاش العام من خلال التعرض لبعض الجرائم سواء تلك التي تم إحداثها لأول مرة أو تلك التي تمت مراجعة بعض أركانها والجزاءات المقررة لها، ومقاربة موقعها بين بنية النص الجنائي القديم ونظيره الجديد مع التركيز على الأكثر جدلا وتباين وجهة نظرنا حيالها.
ويشمل هذا الملحق بعضا من تلك الجرائم الواردة في صلب مسودة المشروع والتي تكتسي أهمية بالنظر إلى النقاش الذي واكبها والذي تباينت فيه وجهات النظر كالجرائم المعاقب عليها بالإعدام ومدى تكييفها مع المعاهدات الدولية وثقافة الدستور الجديد، وكذا الإفطار في شهر رمضان والعلاقات الجنسية غير الشرعية ومدى تصادم ذلك مع الحريات الفردية والحقوق الطبيعية وغيرها من الأفعال الجرمية الأخرى التي تجدونها في هذا الملحق عبر الفقرات التالية:
الفقرة الأولى : جريمة الامتناع عن أداء النفقة
نظم المشرع المغربي جريمة الامتناع عمدا عن آداء النفقة لمن له الحق فيها بموجب الفصلين 480 ـ 481 من القانون الجنائي الحالي وهما الفصلين اللذين طالتهما المراجعة سواء في الشق المتعلق بالعقوبة وكذا الشق عمومية المتعلق بشكليات تحريك الدعوى العمومية في حق المشتكى به أثناء تقديم الشكاية إلى وكيل الملك.
فإذا كان النص الحالي يعاقب بالحبس من شهر إلى سنة وغرامة من 200 إلى 2000 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين لمن صدر ضده حكما قابلا للتنفيذ بدفع النفقة إلى زوجه أو أحد أصوله أو فروعه وأمسك بدون مبرر مشروع عن دفعها في موعدها المحدد، وفي حالة العود يكون الحكم بعقوبة الحبس حتميا، فإن المسودة قلصت الحد الأقصى للعقوبة إلى ستة أشهر ورفعت الغرامة من 200 إلى 5000 درهم، كما قامت المسودة بمنح المشتكى به فسحة من الوقت بإعذاره بأن يقوم بما عليه في ظرف 30 يوما بعدما كانت هذه المدة محددة في 15 يوما بخصوص الاستجواب الذي يقوم به أحد ضباط الشرطة القضائية بناء على تعليمات من النيابة العامة.
غير أنه لا يخفى ما للنفقة من طابع معيشي بحيث يتعدى مفهوم الالتزام الأخلاقي، والأدبي، وبالتالي ضرورة توفير كذا الشروط الممكنة ضمانا لتنفيذ مبالغ النفقة المحكوم بها، وهو ما حاول المشرع تكريسه في مدونة الأسرة من خلال مراعاته للسرعة في البث في دعوى النفقة وتسييجها بضمانات من قبل شمول أحكامها بالنفاذ المعجل عليها وعدم تقادم المطالبة بها، وعدم خضوع مبالغها للحجز والمقاصة، ناهيك عن تحديد أمد للبث فيها داخل أجل شهر.
غير أن هذه الضمانات سرعان ما تتبخر بعد امتناع المحكوم عليه بعدم آداء النفقة التي بذمته وانتهاء المسطرة بتحرير محضر امتناع حيث يتم اللجوء إلى مسطرة إهمال الأسرة بتقديم الشكاية إلى النيابة العامة وفق شكليات حددها القانون.
والمثير للانتباه أن مدة الإعذار التي تمت مضاعفتها في مسودة القانون الجنائي الحالي تعتبر مجحفة سيما وأن إيجادها من الأصل يفقد هذه المسطرة قوتها، حيث يمنح المشتكى به مهملة للتواري عن الأنظار، وتنتهي المسطرة بتحرير مذكرة بحث في حقه، وحفظها إلى حين إلقاء القبض عليه، وكم هي الشكايات التي لقيت نفس المصير.
فإذا كان تنفيذ الأحكام القضائية قاعدة دستورية، وإذا كانت المشتكية قد قطعت سيلا من الإجراءات في سبيل تنفيذ الحكم الذي حاز قوة الشيء فإن ذلك كافيا للمحكوم عليه بالوفاء بما في ذمته من نفقة، وأن تمتيعه بأجل 30 يوما (أجل الاندار) ليس له ما يبرره، ويمس بشكل مباشر الذمة المالية للمشتكية، إضافة إلى أن تقليص مدة العقوبة من سنة إلى ستة أشهر كحد أقصى والرفع من مبلغ الغرامة إلى 5000 درهم يفقد مسطرة إهمال الأسرة خصوصيتها، ولا يحقق الردع المنشود، إضافة إلى مزاحمة الدولة للمشتكية المهملة في تحصيل مبلغ الغرامة الذي يصل إلى 5000 درهم.
فإذا كان يفترض في آداء النفقة ملاءة الذمة للمحكوم عليه، فإنه في حالة عجزه عن الوفاء بها فإن مبادئ العدالة الاجتماعية تمنع عدم الزج به في السجن لعدم قدرته على آداء النفقة، ويكون من الأولى توسيع دائرة المستفيدات من صندوق التكافل بأن تشمل الزيجات المهملات عوض الاقتصار على المطلقات المعوزات.
فالمقاربة الأمنية وحدها غير كافية، بل لابد من اعتماد مقاربة اجتماعية تراعي المراكز القانونية، وأن توفر أسباب الحماية للطرف الضعيف خصوصا وأن النفقة تكتسي طابعا معيشيا آنيا وقيمة اجتماعية.
الفقرة الثانية: تجريم الامتناع عن إرجاع الزوج المطرود إلى بيت الزوجية
(المادة 1 ـ480 من المسودة)
جرمت مسودة مشروع القانون الجنائي الامتناع عن إرجاع الزوج المطرود إلى بيت الزوجية بتنصيصها في المادة 1 ـ 480 (يعاقب بالحبس من شهر واحد إلى ثلاثة أشهر وغرامة من 2000 إلى 5000 درهم عن الامتناع من إرجاع الزوج المطرود من بيت الزوجية في نطاق ما هو منصوص عليه في المادة 53 من مدونة الأسرة) .
إذا كانت إرادة المشرع المغربي قد اتجهت إلى تسييج علاقات الأزواج وعدم التراخي بشأنها والحزم في الضرب بقوة على كل فعل قد يضر بهذه العلاقة، ويقوض عرى الميثاق الذي يربط بين الزوجين وما يرتبه من حقوق وواجبات صيانة لأول خلية في المجتمع، فإن المادة 53 من مدونة الأسرة عيب عليها عدم استجابتها لهذه الفلسفة سيما وأنها جاءت عامة ولم يرتب عليها أي جزاء جنائي في حالة امتناع الزوج عن إرجاع الزوجة المطرودة إلى بيت الزوجية، فهل تجاوزت هذه المراجعة الفراغ التشريعي الذي أبانت عنه تطبيقات المادة 53 من مدونة الأسرة؟.
لقد صادفت مسودة المشروع الصواب عندما رتبت عن الامتناع من إرجاع الزوج المطرود من بيت الزوجية عقوبة حبسية من شهر إلى ثلاثة أشهر وغرامة من 2000 إلى 5000 درهم وبالتالي نفخت الروح في مقتضيات المادة 53 من مدونة الأسرة التي ظلت عقيمة بلا معنى وأعادت الروح إليها، وفي ذلك إشارة قوية إلى توفير أسباب الأمن القانوني للطرف الضعيف في العلاقة الزوجية، غير أن ترتيب الجزاء الجنائي وحده لا يحقق الأهداف المرجوة ولا يوفر حماية كاملة للزوج المطرود، إذ اكتفت المسودة بالنظر في حالة الإمتناع من إرجاع الزوج المطرود من بيت الزوجية ولم تلتفت إلى توفير الضمانات الكفيلة بضمان أمن وحماية هذا الزوج في حالة إرجاعه إلى بيت الزوجية، وأن مجرد الإحالة على مقتضيات المادة 53 من مدونة الأسرة أبقى الحال على ما كان عليه وتكون المسودة قد وقفت في منتصف الطريق للأسباب التالية :
ـ عدم التنصيص على الإجراءات والتدابير الكفيلة بحماية الزوج المطرود في حالة إرجاعه؛
ـ عدم توسيع دائرة الأشخاص الذين قد يقومون بإخراج الزوجة من بيت الزوجية غير الزوج؛
ـ عدم تشديد العقوبة في حالة معاودة الطرد بعد عملية الإرجاع.
إن المشرع ملزم بتأطير الامتناع بإرجاع الزوج المطرود إلى بيت الزوجية بالإحاطة بجميع جوانب هذا النوع من الأفعال، وعدم الاكتفاء بالتجريم فقط بل لابد من إيجاد التدابير الكفيلة لحماية الزوج المطرود وضمان سلامة الأبناء إن وجدوا، ناهيك عن التشدد في حالة معاودة هذا السلوك الإجرامي ضمانا لاستقرار المراكز القانونية للأطراف ووضع حد لمثل هذه الإنزلاقات الراغنة التي تعصف بالأسرة مع شمول التجريم كل شخص آخر غير الزوج قام بإخراج الزوجة من بيت الزوجية وخضوعه للمساءلة الجنائية.
بالنتيجة إن التنصيص على تجريم الامتناع من إرجاع الزوج المطرود من بيت الزوجية وحده غير كاف لتجاوز الصعوبات العملية التي اكتنفت تطبيق مقتضيات المادة 53 من مدونة الأسرة وأن إيجاد الوسائل الكفيلة لحماية أمن وسلامة الزوج المطرود وتشديد العقوبة في حالة التعنت ومعاودة نفس الفعل، كل كذلك قد يوفر أسباب الحماية للطرف الضعيف ومن خلاله الأسرة برمتها.

الفقرة الثالثة :تجريم الإكراه على الزواج المادة 1 ـ 2 ـ 503
إن بناء أسرة مستقرة تبدأ ملامحها الأولى في التشكل عند إبرام عقد الزواج الذي يجب أن تتوفر فيه كل الشروط المطلوبة ويتجسد فيه سلطان إرادة الزوجة والزوج الذي يتمظهر في الإيجاب والقبول بين الطرفين بشكل لا يدع مجالا للشك في التأسيس لأسرة جديدة عن بينة واختيار.
تماشيا مع هذه المعاني السامية للزواج وما تترتب عليه من آثار يكون من اللازم تحصين هذا المشروع منذ بدايته الأولى يمنع كل سلوك من شأنه التأثير على إرادة أحد الطرفين وإكراه في الانخراط في علاقة زوجية عن طريق الإجبار.
ونظرا لبشاعة هذه الصورة التي تجسد أحد مظاهر العبودية الإنسانية فقد حضرتها مسودة مشروع القانون الجنائي وعاقبت بالحبس من شهر واحد إلى ستة أشهر وغرامة من 2000 إلى 20000 درهم، أو بإحدى هاتين العقوبتين من أكره أو أجبر شخصا على الزواج بواسطة العنف أو التهديد بارتكابه.
وتضاعف هذه العقوبة إذا ارتكب الإكراه بأي وسيلة ضد قاصر دون الثامنة عشر من عمره.
ولم تكتفي المسودة عند هذه العقوبات بل أجازت الحكم على مرتكبي هذا النوع من الجرائم بالحرمان من ممارسة حق أو أكثر من الحقوق المدنية وبالمنع من الإقامة، كما عاقبت على مجرد المحاولة في هذه الجريمة بالعقوبة المقررة للجريمة الثامنة.
كما متعت المسودة تمتيع الفاعل لأي عذر مخفض للعقوبة متى ارتكبت جريمة الإكراه على الزواج ضد قاصر دون الثامنة عشر من عمره.
التزاما مع ذلك، فقد استجابت المسودة لمطلب اجتماعي ملح يمس ممارسة حق اختيار الشريك والإقتران به، وهو حق يتعلق بالحياة الخاصة للأشخاص ومن شأن ذلك الحد من بعض الظواهر الإجتماعية التي كرست ممارسات منحرفة هي أقرب للتملك والعبودية بإجبار الأزواج على التزوج دون رغبة منهم وتحولت على عادات وتقاليد في بعض المناطق.
و يزداد الأمر سوءا عندما يتعلق الزواج بزيجات قاصرات يتم تقديمهن كقربان لأزواجهن في ظروف تنعدم فيها حرية وإرادة الإختيار.
فقد أحسنت المسودة صنعا عندما جرمت الإكراه أو الإجبار على الزواج بواسطة العنف والتهديد، غير أنها ضيقت من دائرة المبلغين على هذا النوع من الأفعال الإجرامية عندما جعلت المتابعة مشروعا بناء على شكاية المتضرر التي يضع التنازل عنها حدا للمتابعة ولآثار المقرر القضائي المكتسب لقوة الشيء المقضي به في حالة صدوره.
فكان من الأولى على المشرع توسيع دائرة المبلغين على هذا النوع من الزواج إسوة بالقاصر، سيما وأن بعض الزيجات المكرهات على الزواج خصوصا في مناطق المغرب العميق، قد لا يجدن سبيلا إلى التبليغ عن ما لحقهن من ضرر جراء الزواج عن طريق الإكراه ويستسلمن للأمر الواقع، وبالتالي يكون من أسباب تحقيق العدالة الإجتماعية والأمن القانوني عدم حصر التبليغ عن هذا النوع من الجرائم من قبل المتضرر وحده لأن من شأن ذلك أن يكرس الإفلات من العقاب ولا يضع أسبابا حقيقية لمحاربة الظاهرة.


المركز الوطني للمصاحبة القانونية و حقوق الإنسان

إرسال تعليق

أحدث أقدم