بعد قصّة حبٍ دامت أعواماً طويلة، تزوّج الشاعر الراحل محمود درويش من حبيبته. وبعد أشهرٍ قليلة وقع الطلاق. حين سأله القاضي عن السبب، أجاب درويش "الزواج يا سيدي القاضي".
قبل أن أواصل، وجب عليّ التحذير: عزيزي الأعزب الفخور بعزوبيتك، إذا كنت تعتقد أنّ هذه التدوينة ستواسيك في قرارك، سيخيب أملك في نهايتها. وعزيزي المتزوّج الذي تحسد كلّ أعزب، ينطبق عليك التحذير نفسه.
بعض مجتمعاتنا العربية باتت تشهد ظاهرة طلاق بنسبة ستين في المئة خلال العامين الأوّلين من الزواج. فلماذا؟ الزواج طبعا!
ليس لأن الزواج هو علّة، لكن الزواج كما نقدم عليه في زمننا هذا، هو المشكلة.
في زمنٍ ليس ببعيد، كانت الفتاة تبقى في البيت، تساعد أمّها في الطبخ والتنظيف، وتنتظر عريسها. لم يكن هناك تعليم، لم يكن هناك وظائف إلا لمن ضاقت بعوائلهنّ الحياة. وكان الرجل يذهب إلى عمله، ويعود إلى منزله، وينتظر دوره ليتزوّج ويبني عائلته.
من الجانبين، كان المرجو من الزواج أمر بسيط في الظاهر: بناء عائلة. كان بناء عائلة أساساً أبسط بكثير من أيامنا هذه.
كانت معايير الشاب في الزواج أن تكون الفتاة من اختيار والدته، فهي أدرى بقدراتها المنزلية. وكانت معايير الفتاة، أو بالأحرى أهل الفتاة هي قدرة العريس المادية على الزواج. حتّى حينها كانت هذه القدرة المادية لا تتعدّى قدرته على دفع مهر بسيط، وتأمين لقمة عيش يومية.
كان يمكن للعروسين أن يعيشا في منزل أهل العريس، دون اعتراضات. كان يمكن أن يكون العرس مجرّد احتفال بسيط لإشهار الزواج. كان يكفي الفتاة السلطة التي يمنحها إياها لقبها الجديد كزوجة، لتكون سعيدة. وكان يكفي الرجل وجود امرأة تطبخ له غير أمّه ليكون سعيداً. كانوا ينجبون، ويربّون أولادهم بأبسط الوسائل. لم يكونوا بالضرورة أكثر سعادة. السعادة لم تكن تعنيهم بمقدارنا. كانوا مكتفين. بأقل بكثير مما لدينا اليوم.
اليوم تغيّرت المعايير، والظروف. حتّى الفتاة التي لا تريد إلا الزواج والعمل كربّة منزل، باتت تتعلّم بانتظار العريس، وأحياناً تجد وظيفة بانتظار العريس، وأحياناً تتجه نحو الشهادات العليا بانتظار العريس. ومع كل خطوة تخطوها بانتظار العريس، تضيق المعايير أكثر، وتكثر التوقّعات أكثر من هذا العريس. لم يعد يكفي الأهل أن يسألوا "هل أنت قادر على مصروف بيتك؟"، باتوا يريدون الشهادات أيضاً التي تليق بمستوى ابنتهم الدراسي، أو الثروة التي قد تعوّض بنظرهم نقص العلم. وباتوا يريدون الوظيفة التي تليق بابنتهم، والتي يجب حتماً أن تدرّ دخلاً أعلى من راتب ابنتهم، التي توظفت فقط لتمضية الوقت بانتظار العريس. ثم يأتي العرس. حيث باتت التوقّعات أن لا يقلّ العرس عن زفاف سندريلا، لدرجة أنّ كثيرين باتوا يقترضون لسدّ مصاريف حفل زفافهم. وبات هناك قطاع خدماتي متخصص بحفلات الزفاف.
أما الفتاة التي تريد الزواج لكنّها تربّت على المساواة مع الرجل، والتحرّر من سلطوية الزوج، فهي أيضاً تسعى لتحقيق المراتب العلمية، ثم الوظائف، ومع كل خطوة تخطوها تزيد متطلباتها من العريس. فهي تريده ندّاً لها، لكن في الوقت نفسه يجب أن يكون أحسن منها وظيفياً وعلمياً كي تشعر أنّه يستحقّها.
ثم يأتي دور الرجل، هذا الذي بات يتغرّب، ويتعلّم الطبخ، وإدارة أمور بيته بدون وجود امرأة. هذا الذي يعمل بجدّ في زمن البطالة المرتفعة والفرص الضئيلة للعمل. لديه ما يكفي من المسؤوليات، فيخشى من إضافة المزيد من الحمل على عاتقه، خصوصاً أنّه لم يعد يرى الحاجة الماسة للزواج. هو أيضاً معاييره اختلفت. لم تعد تكفيه الفتاة التي ترضي والدته، حتّى لو كانت تطبخ أفضل منسف فالمنسف في المطعم يكلّفه مديحاً أقلّ وجهداً اجتماعياً أقلّ.
وهناك الرجل الذي لم يتغرّب، لكنّه بات يعتقد أنّه عملة نادرة في مجتمعات يتغرّب أغلب شبابها. هذا يعاني من عوارض الديك، يعتقد أنّه وحيد في قنّ دجاج، فيختال على الإناث، ويسمح لنفسه بإضافة معايير شبه تعجيزية. ثم عندما يقع.
طبعاً هناك فئات مختلفة من الفتيات والشباب الراغبين بالزواج، سنتطرّق إليهم في تدوينات لاحقة. لكن جميعهم يتشاركون مشكلة المعايير.
أنت تختار شخصاً ستبني معه مستقبلك، ستنجب منه أولادك، ستبني عائلتك، وستشيخ معه، طبعاً يجب أن تكون معاييرك دقيقة. وطبعاً لا يجب أن تكتفي بقدراتها المطبخية، أو بمدخوله الشهري. لكنّ المعايير التي يبدو أن الأغلبية تتمسّك بها هي معايير مادّية، سطحية، ليست ما يبني أسس زواجٍ كما بتنا نريده اليوم.
نحن جيلٌ نبحث عن السعادة، وليس فقط الاكتفاء. نبحث عن شريك نتشارك معه بعض الخصال والأفكار، فيما تثرينا اختلافاتنا. نبحث عن رفيق درب قادر على سماع همومنا دون الحكم علينا. نبحث عن شريكٍ يسندنا وليس طفيلياً يقتات على تعبنا وعلى طاقتنا.
في كلّ ما نبحث عنه حقيقةً في الزواج، لا الشكل له قيمة، ولا المراكز العلمية لها قيمة، ولا القدرة المالية لها قيمة، ولا المهارات المنزلية لها قيمة. معاييرنا للاختيار لا توافق متطلباتنا، هي ما زالت في غالبيتها مبنية على معايير الزواج من أيام آبائنا!
ولذلك زواجنا، كما تمارسه أغلبيتنا اليوم، هو سبب طلاقنا!
في التدوينة المقبلة سأتناول الحبّ، عندما يكون هو سبب الطلاق.
الأقسام:
مقالات