الشرطة الإدارية وحدود ممارستها لاختصاصاتها

 



المهدي عملوك

باحث في القانون العام  المغرب -

 

يقصد بحدود ممارسة الشرطة الإدارية المدى أو النطاق المتاح أما هذه الهيئات وهي بصدد استخدام ما تتوفر عليه من وسائل في سبيل تحقيق المهام أو الأغراض المنوطة بها، أو المدى الذي تستخدم فيه هذه الهيئات سلطاتها وامتيازاتها، ذلك أن هذه الوسائل أو السلطات، إنما أعطيت لهيئات الضبط الإداري بهدف الحفاظ على النظام العام بمختلف مكوناته ومدلولاته وحمايته[1]، ذلك أن مشكلات وقاية النظام العام لا يمكن التنبؤ بها مقدما، حيث تتحكم في نشوئها ظروف مفاجئة ومتغيرة قد لا يكون القانون قد استعد لها ونسق أوضاع مواجهتها، وبالتالي تكون الإدارة هي الأقدر على سرعة التصرف إزاء ما تتطلبه ضرورة المحافظة على النظام العام من إجراءات الحيطة والحذر، خصوصا وأن سلطاتها واسعة بالاستناد إلى نصوص تشريعية، غير أن هذا لا يعني أن تصبح صلاحيات الشرطة الإدارية مطلقة من غير قيود أو ضوابط، ذلك أنه يخشى أن تتجاوز سلطة الشرطة الإدارية حدودها فيكون هناك شطط في استخدام امتيازاتها وسلطاتها لغير صالح الأفراد فتنقلب وظيفتها إلى وظيفة مستبدة تهدر حقوق وحريات الأفراد، لذلك فقد روعي أن يكون تدخلها في تنظيم الحرية بأساليب متفاوتة لا تفضي إلى التضحية بها في سبيل الحفاظ على النظام العام [2].

إن السلطة الإدارية تعمل على التوفيق بين الحريات الفردية ومقتضيات الحفاظ على النظام العام، وهذا في حالة كون تلك الحريات منصوص عليها بالدستور والقانون، فالسلطة الإدارية مقيدة ومجالها محصور وضيق وهو مجال تلك الفئة الأولى من الحريات، وثمة فئة ثانية من الحريات لم ينص عليها الدستور ولا القانون، وهي الحريات الخاصة، مثل إنشاء المقاهي أو إقامة الاستعراضات والمواكب والمعارض..، وغير ذلك من الأنشطة فسلطة الضبط تتمتع بسلطة واسعة في تقييدها بما يتراوح وحدها الأدنى والأعلى، وبحسب نوعية ودرجة الجسامة والآثار الناتجة عن ممارسة هذا النوع من الحريات المرخص بممارستها، وهذا لا يمنع الإدارة من التدخل لتقييد الحريات المنصوص عليها بالدستور تحسبا للضرورة التي يتطلبها الظرف المحيط، ومدى تهديده للنظام العام، وفي هذا المجال مثلا، قضی مجلس الدولة الفرنسي في قضية رئيس بلدية أورليان بتاريخ 15  جوان 2001 برفض قرار العمدة القضائي بمنع الأحداث الأقل من 13 سنة من التجوال إذا لم يكونوا برفقة أوليائهم، وذلك أثناء الليل ابتداء من الساعة الحادية عشر إلى السادسة صباحا في الأحياء المحددة فقط، فألغي بذلك مجلس الدولة الفرنسي قرار رئيس البلدية على أساس تجاوز السلطة وكذلك على أساس الإخلال بمبدأ المساواة [3].

وفي هذا الصدد تكفل القضاء الإداري، ببيان شروط أداء سلطات الشرطة الإدارية لوظيفتها والتي يجب الالتزام بها بحيث يترتب على مخالفتها، عدم مشروعية الإجراءات المتخذة في هذا الخصوص وتكون عرضة للإلغاء خصوصا في الظروف العادية، (الفقرة الاولى) أما في الظروف الاستثنائية (الفقرة الثانية ) فإن لسلطة الضبط الإداري أن تتخذ من الإجراءات اللازمة لمواجهة تلك الظروف ولو اقتضى ذلك الخروج عن قواعد المشروعية العادية، إذ يجيز القضاء الإداري لسلطة الضبط الإداري أن تتخذ من الإجراءات اللازمة للحفاظ على النظام العام، بالقدر الضروري لمواجهة الظروف الاستثنائية[4]. 

الفقرة الاولى  : ممارسة الشرطة الإدارية في الظروف العادية: 

يتطلب احترام مبدأ الشرعية أن تكون الظروف التي تعمل فيها الإدارة ظروفا عادية وبالتالي تكون الإدارة ملزمة باحترام النصوص التشريعية والتنظيمية والقواعد العامة الخاصة بسير المرافق العامة، والحفاظ على النظام العام[5]. 

واستطاع القضاء أن يخرج العديد من المبادئ وهو يتصدى لرقابة مشروعية تدابير الشرطة الإدارية، معياره الحاسم والجوهري في ذلك، فلسفة التوازن بين تحقيق متطلبات النظام العام ومتطلبات الحريات، بحيث أصبح مدى الإجراء الذي تتخذه الإدارة متوقفا على مدى تقديرها لممارسة الحرية التي يواجهها[6] هذه المبادئ يمكن إجمالها فيما يلي

اولا: أن تكون إجراءات الضبط الإداري ضرورية ، لازمة وفعالة:

بمقتضى هذا القيد فإن إجراءات الضبط الإداري يجب أن تستهدف القضاء على المخاطر الحقيقية المهددة للنظام العام، أي يجب في مثل هذه الحالة أن يكون هنالك تهدید حقيقي للنظام العام يستلزم اتخاذ الإجراءات الكفيلة لحمايته، ويترتب على ذلك أن الخلل البسيط للنظام العام أو مجرد تعكير صفوه، لا يجيز لسلطة الضبط أن تتخذ الإجراءات التي قد تقيد الحريات العامة، طالما كان لهذه اتخاذ الاحتياطات المناسبة بالحفاظ على النظام العام.

وحيث يشترط في إجراءات الضبط الإداري أن تكون ضرورية، فإن الضرورة بهذا الصدد تقدر بقدرها، أي أن ضرورة الإجراء الضبطي لابد أن تقدر بحسب جسامة التهديد الفعلي الحاصل للنظام العام، بحيث يكون الإجراء المتخذ من قبل سلطة الضبط الإداري هو الواجب القيام به دون غيره من الإجراءات الأخرى لتجنب الأخطار المهددة للنظام العام، المتاحة أمام سلطة الضبط الإداري، ويترتب على ذلك أن تكون الإجراءات المتخذة في هذه الحالة غير مشروعة متى ما كان هنالك من الإجراءات التي يمكن اتخاذها وتكون أقل تقييدا أو إعاقة للحريات العامة. 

ومن مقتضيات ضرورة إجراءات الضبط الإداري أنه لا يجوز لسلطة الضبط الإداري أن تطلب من الأفراد القيام بعمل ما أو الامتناع عن القيام بذلك، طالما كان هنالك تصرف يمكن القيام به من قبلها بدلا عنهم وبصورة سهلة ويسيرة، ومحققا للغاية المراد تحقيقها في الحفاظ على النظام العام، بمعنى أخر أنه لا يجوز لسلطة الضبط اتخاذ إجراءات أيسر لها في الحفاظ على النظام العام، إلا أنها أشق على الأفراد عند ممارسة حرياتهم [7]. 

ثانيا :كما يشترط في الإجراء الشرطي كي يكون مشروعا أن يكون ضروريا أي أن يكون لازما لمواجهة خطر حقيقي قد يؤدي إلى حدوث اضطراب، ذلك أن الأخطار أو الاضطرابات البسيطة ليس من شأنها أن تكون مبررة لاتخاذ تدابير ضبطية، وتعد حالة الاستعجال في ميدان الشرطة من الأمور الأساسية ذلك لأن توافرها يجعل إجراء الضبط مشروعا[8]. 

وقد استقرت أحكام القضاء الإداري على وجوب أن تكون إجراءات سلطة الضبط الإداري ضرورية ولازمة، حيث قضى مجلس الدولة الفرنسي بإلغاء القرار المتخذ من سلطة الضبط الإداري والمتضمن منع عقد أحد الاجتماعات العامة بادعاء المحافظة على النظام العام، بعدما تبين أثناء نظره لدعوى الإلغاء بأن الظروف المحيطة بالقضية، لم تشر إلى أن التهديد الحاصل بالنظام العام كان من الخطورة التي تبرر إلغاء الاجتماع، إذ كان أمام سلطة الضبط الإداري أن تتخذ من الوسائل المتاحة أمامها للحفاظ على النظام العام، مع السماح بعقد الاجتماع العام، قرار مجلس الدولة الفرنسي في 19 مايو 1933 في قضية السيد بنجامين، عندما أصدر عمدة Nevers قرارا بمنع عقد الاجتماعات خشية وقوع الاضطرابات تخل بالنظام العام[9]. 

وقد طبق القضاء الإداري المغربي هذه القاعدة فقد جاء في الحكم الذي أصدرته المحكمة الإدارية بمكناس ما يلي "إن كل قرار إداري اتخذ في غياب احترام الإجراءات المنصوص عليها في الفصل الثاني من المرسوم عدد 157.78 بتاريخ 26.5.1980 الخاص بتحديد الشروط التي تنفذ بها تلقائيا التدابير الرامية إلى استتباب الأمن وضمان سلامة المرور والصحة العمومية يعتبر مشوبا بعيب مخالفة القانون..." قرار سحب رخصة استغلال مقهى اعتبرته المحكمة الإدارية بمكناس مخالفا للقانون لأن السلطة الإدارية التي اتخذته لم تعذر المدعي من أجل إصلاح الوضع واتخاذ التدابير اللازمة التي تحد من الإخلال بالأمن وصحة المواطنين[10]. 

وحيث يشترط في إجراءات الضبط الإداري أن تكون فعالة ومؤثرة، فإن المقصود من ذلك هو أن تكون الإجراءات المذكورة حاسمة في المحافظة على النظام العام. وتوخي ما يحيط به من أخطار محققة، لذا فإن عدم تحقيق الغاية من الإجراءات المتخذة إنما تجعل منها إجراءات غير فعالة، ولا يجوز الاستناد إليها وبالتالي لا يمكن الاعتداد بها عموما.

ثانيا:أن يكون التدبير متناسبا مع طبيعة وجسامة الاضطراب المراد تفاديه

يشترط في التدبير الضابط أن يكون متناسبا مع مدی جسامة الاضطراب الذي تهدف الإدارة إلى تفاديه، فإذا كان الاضطراب قليل الأهمية، فلا يجب أن تكون التضحية بكامل الحرية أو تقيدها في المجال الأكبر لها، ويستلزم ذلك ضرورة النظر إلى منزلة الحرية التي يراد المساس بها لاتقاء الخطر، وترتيبا على ذلك فلا يجوز التضحية بحرية عليا من أجل الخشية من الإخلال بمظهر بسيط من مظاهر ممارسة حرية أدنى[11]. 

ويلاحظ أن تحقيق التناسب في إجراءات الضبط الإداري، على ضوء أحكام القضاء الإداري الفرنسي إنما يتم من خلال تقديم ثلاثة عناصر ضمن نطاق الصراع بين السلطة والحرية والتي يمكن إجمالها في ما يلي

-1 تقدير جسامة الاضطراب أو الخلل

يجب أن تكون إجراءات الضبط متناسبة مع درجة الإخلال بالنظام المتعين تداركها  فإذا كان الإخلال بالنظام قليل الأهمية ففي هذه الحالة لا يجوز التضحية بالحرية من أجل حفظ النظام أما إذا كان الإخلال بالنظام يتسم بالخطورة فإن الاعتداء على الحرية يجد سند تبريره حينئذ، وهذه التفرقة تبدو واضحة بصفة خاصة في حالة الحرب والظروف الاستثنائية.[12]

ويعمل القاضي الإداري على مراقبة تقدير سلطة الضبط الإداري لخطورة الاضطراب أو التهديد الحاصل للنظام العام، والمراد تفاديه من قبلها، بحيث لا يمكن تبرير المساس بحرية الأفراد من قبلها ما لم تكن هنالك اضطرابات جسيمة مهددة للنظام العام، إذ لا تقتصر الرقابة القضائية بهذا الصدد على مجرد توافر التهديد بالنظام العام، بل تمتد تلك الرقابة لبحث التناسب بين إجراءات سلطة الضبط الإداري مع الوقائع التي كانت سببا دافعا في اتخاذها.

2 -تقدير الإجراءات الإدارية ذاتها ( تقدير شدة الاعتداء على الحرية) 

تخضع الإجراءات الإدارية التي تتخذها سلطة الضبط التقدير بحد ذاتها ،إذ لا يمكن تبرير اتخاذ تلك الإجراءات إلا لغرض تفادي تهديد حقيقي وجسيم للنظام العام، بحيث يكون ذلك مدعاة لتقييد ممارسة الحريات العامة، لذا قضى مجلس الدولة الفرنسي بإلغاء القرار الصادر من سلطة الضبط الإداري والمتضمن منع الاجتماعات المراد تنظيمها من طرف الأحزاب الشيوعية ضد الحرب الهندية الصينية (نهاية عام 1949 وبداية عام 1947) بعد ما تبين له بأن تلك الاجتماعات لم يكن من شأنها تهديد النظام العام، إذ كان أمام سلطة الضبط اتخاذ الاحتياطات المتاحة أمامها للحفاظ عليه

ويلاحظ في هذا الصدد أن على سلطة الضبط الإداري وقبل اتخاذها إجراءات الضبط أن تعمل على تقدير الظروف المتاحة أمامها، والتي تبرر اتخاذ تلك الإجراءات وبالتالي فإن عليها اتخاذ الحيطة عند اتخاذها لإجراءات الضبط إلا بالقدر الذي تقتضيه الحالة الواقعية وعلى ضوء الظروف المحيطة بها، إذ أن في ذلك اقل خطورة على ممارسة الحريات العامة من فرض قيود مسبقة، [13]وذلك باعتبار سلطات الشرطة الإدارية هي سلطات مقيدة في الأصل ولا يمكن أن تكون تقديرية بأي حال من الأحوال حسب بعض الآراء الفقهية، وعلى عكس ذلك أقرت محكمة النقض في قرار عدد 540 بتاريخ 2018/06/25 بأن[14] السلطات الأمنية تتوفر على قدر من السلطة التقديرية يخولها اتخاذ الحيطة والحذر كلما قامت أسباب أو قرائن أو دواعي ذات صلة بالمصلحة العليا للبلاد".

3- تقدير النشاط الفردي ذاته (قيمة الحرية)

في ضوء التنوع والتغاير الذي تنطوي عليه الحريات من حيث طبيعتها، ظروف ممارستها ومدى تأثير هذه الممارسة على النظام العام، وذلك لاعتبار أن الحريات ليست كلها بنفس الأهمية والدرجة، إذ أن بعضها تعتبر جوهرية وذات قيمة أساسية بالنسبة للحريات الأخرى، قد استطاع القاضي أن يستخرج العديد من المبادئ وهو يتصدى لرقابة مشروعية تدابير الشرطة وكان معياره الحاسم والجوهري في ذلك يقوم على أساس فلسفة  التوازن بين تحقيق متطلبات النظام العام ، ومطالب ممارسة الحريات بحيث أصبح مدى الإجراء الذي تتخذه الإدارة متوقفا على مدى تقديرها لممارسة الحرية التي يواجهها [15].

وتطبيقا لقاعدة التناسب يتعين في تدابير الضبط التي تلجأ إليها الإدارة في كل حالة أن تكون متوافقة مع الظروف الخاصة التي تطبق في ظلها، ومن ثم لا يمكن اعتبار تلك التدابير مشروعة إلا إذا كانت ضرورية ومتوافقة مع الظروف المحيطة بها، وخاصة ظروف الزمان والمكان ومتناسبة مع النتيجة التي يتعين على سلطات الشرطة الإدارية السعي إليها من أجل حفظ النظام العام [16].

وفي هذا الصدد يمكن توضيح مدى تغيير التدابير الشرطية مع تغاير الظروف الزمانية والمكانية التي قد تحيط بممارسة الحرية فيما يلي

أ- الظروف الزمانية

تختلف تدابير الشرطة الإدارية في الظروف العادية بحسب ما إذا كانت القيود المفروضة على الحرية مؤقتة أو دائمة فإذا وجد ما يدعو أن يكون التنظيم الشرطي مؤقتا، أمكن لأن ينطوي على أحكام متشددة قضتها ظروف زمنية محددة، أما بالنسبة لتدابير الضبط التي تفرض تنظيمها دائما، فيجب أن تنطوي على أحكام أقل شدة نظرا لما تنطوي عليه من تهديد دائم للحريات، وهو ما يعني أن سلطات الضبط تكون قوية فيما يتعلق بالأنظمة والإجراءات الدائمة، حيث يمكن لهيئات الشرطة الإدارية أن تتخذ الإجراءات الضبطية المؤقتة ما لا يمكن لها أن تتخذه من إجراءات دائمة. 

وينبغي التمييز كذلك بين الأوقات التي تفرض فيها القيود والضوابط، فما يعتبر مشروعا في الليل قد لا يعد كذلك في النهار أو مثال ذلك الإمكانية المخولة لسلطات الشرطة الإدارية في فرض القيود على حريات الأفراد وأنشطتهم في الليل مالا تستطيع أن تفرضه في النهار، كمنع الباعة المتجولين من المناداة ببضائعهم باستعمال مكبرات الصوت أو بأصوات مرتفعة في الليل، ولكنها لا تستطيع اتخاذ نفس الإجراء في النهار، كما أنه من الجائز أن يفتش الأشخاص لو ساروا ليلا حاملين أمتعة، ولا يكون هذا الإجراء مسموحا به أثناء النهار.[17]

ب- الظروف المكانية 

تختلف السلطات التي تتوفر عليها هيئات الشرطة الإدارية باختلاف المكان الذي تمارس فيه هذه السلطات حيث إن الإدارة تغدو أقوى ما تكون سلطانا بالنسبة للنشاط الذي يجري في الشوارع والميادين العامة، ولذلك فإن الإدارة تتمتع بسلطة أوسع في تنظيمها، أما بالنسبة للمسكن الخاص، فان الأمر يغدو على عكس ذلك تماما فالنشاط الفردي الذي يقوم به الإنسان في داره لا تستطيع الإدارة أن تقيده بنفس الشدة، فهي مثلا لا تستطيع أن تخضعه الإذن سابق منها، أو تحرم عليه أنواعا منه (طالما هو يعيش في حدود النظام العام والآداب) ومن هنا يقال دائما أن المسكن الخاص لا يدخل في نطاق الضبط الإداري، ولا تنحسر هذه القاعدة إلا عندما يتصل هذا المسكن بالخارج كأن تنبعث منه ضوضاء شديدة تنعكس آثارها على السكينة العامة. 

أما الأماكن الخاصة المفتوحة للاستعمال العام كالفنادق والملاهي، فإن التقييد بشأنها لا يرقى إلى درجة ما يجري في الميادين العامة، ولا ينزل إلى درجة المساكن الخاصة، فهي كمكان خاص يوجب على الإدارة عدم تقييد ما يجري فيها من نشاط، لكن فتحها للاستعمال العام يوسع من دائرة سلطات الضبط اتجاهها.

3- أن يكون التدبير متصفا بالعمومية ومحققا للمساواة 

إن مبدأ المساواة يعتبر المبدأ الأساسي في كل تنظيم قانوني للحريات العامة والحقوق غير أنه لا يمكن أن يتحقق إلا بقوانين عامة ومجردة تكفل المساواة بين جميع الأفراد.

وعليه فإنه يجب حتى يكون التدبير الضبطي مشروعا أن يتصف بالتجريد في مواجهة الأفراد، إذ أن هذه الصفة هي التي تمنع التمييز بين خالة مشابهة وأخرى مما تدخل في مجال تطبيقه، فالتدبير الضبطي إذن لا يمكن أن يكون إلا تدبيرا عاما ومجردا يشمل كل من تتوافر فيه صفة بعينها لا إلى شخص بعينه، ويواجه كل واقعة تتوافر فيها شروط معينة لا واقعة معينة بذاتها، وهذا العموم لا يتصل فقط بالفرد المكلف بالإجراء بل يمتد ليشمل المكان الذي يجري العمل في نطاقه والمدة التي يتم خلالها أو فيها، فهي عمومية تشمل الأشخاص والزمان والمكان

ولقد كان مجلس الدولة الفرنسي صارما في تطبيق مبدأ المساواة وخاصة فيما يتعلق بنشاط سلطات الضبط، حيث قضى بأن الأفراد الذين يتواجدون في ذات الظروف يجب أن يعاملوا على قدم المساواة دون ما تفرقة أو محاباة [18]، كما أدان الامتيازات التي لا مبرر لها والتي لا تستند إلى اختلاف في المواقف أو اعتبارات المصلحة العامة، فمن ذلك ما قضى به المجلس من عدم مشروعية الأمر الصادر من محافظة الشرطة بمنح تراخيص بوقوف سيارات الأشخاص معينين دون غيرهم على الطريق العمومي.[19]

وفي القانون المقارن دائما قضت محكمة القضاء الإداري في مصر في أحد أحكامها على أنه "... من الواجب على السلطة الإدارية أن تسوي في المعاملة بين الأفراد متى اتحدت ظروفهم، فيما أعطاها المشرع من اختصاصات في تصريف الشؤون العامة، بحيث يمتنع عليها أن تعطي حقا لأحد تم تحرم غيره منه متى كانت ظروفهم متساوية.[20]

وفي نفس الاتجاه سار القضاء المغربي حيث ألغى قرارا إداريا لتعارضه مع مبدأ المساواة بين الأفراد، وذلك لما رفضت السلطة الإدارية الاستجابة لطلب الطاعن والرامي إلى الحصول على رخصة تمكنه من توضيح ما إذا كانت الأرض التي اشتراها ليست فلاحية ولا قابلة للفلاحة قبل تسجيل الشراء في المحافظة العقارية، بينما أعطت رخصة مماثلة لمشتر آخر اشترى قطعة أرضية مستخرجة من نفس الرسم العقاري، وبذلك تكون قد اشتطت في استعمال سلطتها، وخرقت مبدأ المساواة لما حرمت الطالب من رخصة سبق لها لا أن سلمت رخصة مماثلة له لمشتر آخر.[21]

ويلاحظ بأن المساواة الواجب تحققها في إجراءات الضبط لا يمكن أن تكون مساواة مطلقة بقدر ما هي مساواة نسبية، لذا فإنه لا يشترط أن تطبق المساواة. على كافة أفراد المجتمع بل إن تطبيقها إنما يتم على الأفراد الذين تتوافر فيهم الشروط المحددة قانونا ذلك أن الغاية المراد تحققها من اتخاذ إجراءات الضبط هي المحافظة على النظام العام، ولا يمكن أن تكون تلك الإجراءات مشروعة ما لم يكن الخطر الذين يحدد تلك الغاية عاما أيضا، وبناءا على ذلك فإنه لا يوجد ما يمنع من قيام سلطة الضبط الإداري من إجراء نوع من التمييز أو التفرقة في المعاملة بين الأفراد، وذلك من خلال منح طائفة من الأفراد امتيازا معينا وأن تفرض عليها قيدا خاصا بواسطة أساليب الضبط الإداري، طالما كان الغرض من ذلك هو المحافظة على النظام العام، وأن تلك التفرقة تسري على كافة المتواجدين بذات الموقف والظروف.[22]

وفي هذا الإطار قضى مجلس الدولة الفرنسي بمشروعية تخصيص مرآب السيارات الإسعاف، وسيارات الأجرة وحالات أخرى، وذلك لأنه رأى أن التمييز ليس له ما يبرره في هذه الحالات، وبالتالي لم يكن مبدأ المساواة ليس له ما يبرره في هذه الحالات وبالتالي لم يكن مبدأ المساواة محل أي انتهاك، وعلى عكس ذلك أقر بعدم مشروعية الأمر الصادر عن مدير الشرطة بمنح تراخيص بوقوف سيارات الأشخاص معينين دون غيرهم على الطريق العمومي.[23] 

الفقـرة الثانية: ممارسة الشرطة الإدارية في الظروف الاستثنائية 

تعتبر نظرية الظروف الاستثنائية من النظريات التي ثار حولها جدل فقهي يتعلق بنشأتها التاريخية، كما تختلف تعريفاتها بين الفقه والتشريع والقضاء والمعاهدات الدولية إلى جانب تداخلها مع مجموعة من المعطيات المتشابهة كحالة الضرورة والسلطة التقديرية  ومبدأ المشروعية وأعمال السيادة

انقسم الفقه في تعريفه لنظرية الظروف الاستثنائية إلى موقفين

الفريق الأول: يعرف نظرية الاستثناء بالمفهوم الواقعي، أي أنها مجموعة أحداث أو ظروف تستدعي جملة من القوانين والإجراءات غير تلك المؤطرة للظروف العادية وفي هذا الاتجاه عرفها الأستاذ عبد الرؤوف هاشم بيومي على أنها " أحوال تمر بها الدولة وتطبق أثنا12ئها قواعد شاذة غير مألوفة تجيز لها الخروج مؤقتا عن مبدأ المشروعية هذه الشروط الشاذة تسمح باتخاذ تدابير سريعة لحماية أمن الدولة ونظامها العام ومرافقها الأساسية لما يهددها من مظاهر نتجت عن هذه الظروف .

 الفريق الثاني: يعرف نظرية الظروف الاستثنائية بالمفهوم القانوني، أي تلك    المجموعة من القوانين المنظمة لمواجهة ظروف غير عادية تهدد أمن الدولة واستمرارها سواء كانت تلك القوانين صادرة عن السلطة التشريعية أو تخول للسلطة التنفيذية التصرف أثناء تلك الظروف

وفي هذا الاتجاه نجد عميد الفقه الفرنسي موريس هوريو، الذي عبر عن الظروف الاستثنائية بقوله ما مضمونه إنها تشكل دفاعا شرعيا من حق الحكومة اتخاذ التدابير اللازمة لمواجهتها حتى وإن خرجت عن إطار المشروعية، فإنها لا تخرج عن إطار القانون طالما كانت في حالة حق دفاع شرعي، وفي هذا الاتجاه يذهب الفقه الألماني، حيث هناك من يعتبر أن الأصول الأولى لنظرية الظروف الاستثنائية في القانون العام تعود إلى الفقه الألماني، الذي اعتبرها نظرية قانونية وتعد حقا للدولة ، حيث تكون الأعمال و الإجراءات التي تتخذها الدولة في أحوال الضرورة هي إجراءات مشروعة ولا ترتب مسؤولية على الإدارة ولا يجوز للغير مطالبة الإدارة بالتعويض عما يلحقهم من ضرر جراء ذلك . وتجد هذه النظرية أساسها في كتابات بعض الفقهاء الألمان، منهم هيكل و هرنك و جلينك. ويطلق البعض على النظرية الألمانية بالنظرية الديكتاتورية ولم تكن في حقيقتها نظرية قانونية أما في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، فقد استقرت أحكام القضاء على اعتبار نظرية الظروف الاستثنائية مجرد نظرية سياسية، لا يمكن أن تكون بذاتها أساسا قانونا للسلطات التشريعية لرئيس الدولة في الظروف الاستثنائية، ففي هذه الدول هناك ما يعرف بحالة في الطوارئ وهي تقابل حالة الضرورة.

ولذلك لم تكن مقبولة لدى الفقه الفرنسي النظرية الألمانية والنظرية السياسية وفضلوا عليها النظرية القانونية وحيث تكون الأعمال والإجراءات التي تتخذها الدولة في أحوال الضرورة هي إجراءات مشروعة وقانونية وتعد ا حقا للدولة للغير مطالبة الإدارة بالتعويض كلما لحقهم ضرر جراء ذلك. وتجد هذه النظرية أساسها في كتابات بعض الفقهاء الألمان، منهم هيكل وفرنك وجلينك، ويطلق البعض على النظرية الألمانية بالنظرية الديكتاتورية ولم تكن في حقيقتها نظرية قانونية في بريطانيا والولايات المتحدة فقد استقرت أحكام القضاء على اعتبار نظرية الظروف الاستثنائية مجرد نظرية سياسية ، لا يكمن أن تكون بذاتها أساسا قانونا للسلطات التشريعية لرئيس الدولة في الظروف الاستثنائية، ففي هذه الدول هناك ما يعرف بحالة الطوارئ وهي تقابل حالة الضرورة ولذلك لم تكن مقبولة لدى الفقه الفرنسي النظرية الألمانية والنظرية السياسية و فضلوا عليها النظرية القانونية[24].

أما التعريف القضائي لنظرية الظروف الاستثنائية، فيرجع الأصل فيها إلى القضاء الفرنسي وبالضبط مجلس الدولة الفرنسي، إذ معظم نظريات القانون الإداري إن لم نقل كلها تعد قضائية المنشأ والأصل، ومن بينها نظرية الظروف الاستثنائية حيث استعمل المجلس عبارة "الظرف الاستثنائي" وبين أسبابها بدءا من حالة الحرب التي سماها "نظرية سلطان الحرب" في حين استعمل مجلس الدولة المصري عبارة "حالة الضرورة" حيث ساهمت قرارات المجلس في التوازن بين اعتبارات المحافظة على حقوق الأفراد وحرياتهم، وسلامة الدولة بدفع الأخطار التي تهدد استقرارها، وأكد مجلس الدولة الفرنسي أن نظرية الظروف الاستثنائية هي نظرية قضائية مرنة وذات أبعاد خاصة، وركز القضاء المصري على أثر الظرف الاستثنائي على الحريات العامة، وهذا ما ظهر جليا في قرار محكمة النقض المصرية القاضي بأنه للحكومة عند قيام حالة استثنائية تمس بالأمن والطمأنينة سلطة تقديرية واسعة تتخذ من التدابير السريعة الحاسمة ما تواجه به الموقف الخطر. 

أما التعريف التشريعي للظروف الاستثنائية: ففي التشريع الإسلامي، وبالرجوع المصادر الشريعة الإسلامية المتمثل في الكتاب والسنة نجد قول الله تبارك تعالی"إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما احل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم"، [25] وكذلك قوله تعالى " من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم".[26]

وفي السنة النبوية، ما حدث للصحابي الجليل عمار بن یا سر عند شتمه للإسلام بالإكراه حفاظا على حياته لما تعرض للتعذيب من المشركين فسأله رسول الله عليه الصلاة السلام: كيف تجد قلبك؟ فقال عمار:  مطمئن بالإيمان، فرد عليه الرسول الكريم قائلا: إن عادوا فعد. وكذلك اعتمد الفقه الإسلامي قاعدة "الضرورة تبيح المحظورات" وكرسها، ويقصد بها وجود ضرورة ملحة تدفع المسلم إلى تجاوز الحدود الملزمة بنص تشريعي.

استنادا إلى هذه النصوص من القران الكريم والسنة النبوية ، هنالك من يرى أن نظرية : الظروف الاستثنائية معروفة ومقررة في الشريعة الإسلامية إذ تمكن المسلمين الخروج عن القواعد الأصلية العامة الملزمة لكافة المكلفين في حالة وجود ظرف طارئ أو ما يعرف بالترخيص أو الإعفاء في حالة المرض والسفر والإكراه... الخ، وقد جاءت مرونة هذه النظرية وما يخدم الحريات الأساسية ومصالح الأفراد، إذ وردت تطبيقات لحالة الضرورة في كل من الشريعة اليهودية والشريعة المسيحية ، وان نظرية الضرر كتنظيم دستوري لم تظهر إلا بعد نشأة الدولة بمفهومها الحديث القائم على مبدأ سيادة القانون ومبادئ احترام القانون وحريات الإنسان

وفي الإطار التشريعي، دائما وبالنسبة للتشريع الوضعي قلم تنفق التشريعات على تسمية موحدة لهذه النظرية وإنما نصت عليها في تشريعاتها المختلفة.[27]

فدستور الجمهورية الفرنسية لسنة 1958 في مادته السادسة عشر نجده يتحدث عن الظروف الاستثنائية، وفي قانون 15 أبريل لعام 1960 يتحدث عن حالة الطوارئ، وفي المغرب فالدستور المغربي الحالي في الفصل 59 يتحدث عن حالة الاستثناء[28].

إن ما أجمعت عليه التشريعات الوضعية في مختلف الدول هو عدم توحيد تسمية النظرية بخلاف الفقه، وحتى النصوص القانونية اقتصرت على ذكر الإجراءات الخاصة الواجب اتخاذها في حالة وقوع الظرف الاستثنائي، ولم تأت. على تعريف الظروف غير العادية، بل حددت فقط شروط قيامها وتدابير مواجهتها وكذا الجهة المخول إليها سلطة مجابهتها، وربما يرجع هذا الكون التعريف من اختصاص الفقه الأصيل وما مهمة التشريع إلا تنظيم الشروط والحالات[29]. 

أما نظرية الظروف الاستثنائية في تعريفات المعاهدات الدولية، فبعد انتقال حقوق الإنسان إلى العالمية تبنتها المنظمات الدولية وأدمجتها ضمن اتفاقيات وبروتوكولات سعت العديد من الدول للانضمام إليها، لترقية حقوق الإنسان وأنظمتها القانونية، فالظروف الاستثنائية في هذه المعاهدات هي الظروف التي تجعل الدول الأعضاء تخرج عن الالتزامات الموجودة بها بغرض تجنب المخاطر المهددة لسلامة الدولة فكان لزاما عليها اتخاذ الإجراءات بقدر الضرورة وأن تتخذ في أضيق الحدود[30].

ومن بين هذه المعاهدات العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي أكد على أن حالة الطوارئ المعلن عنها رسميا تعطي للدول الأعضاء ترخيصا بأن تتخذ تدابير استثنائية حتى وإن خرقت بنود العهد شرط التقيد بالتزامات القانون الدولي، بشرط عدم انطوائها على تمييز يكون مبرره العرق أو الدين أو الجنس أو الأصل الاجتماعي، وحدد العهد إجراء إعلان الظرف الاستثنائي بشرط إعلان الأمين العام للأمم المتحدة، وكذا عند انتهاء هذا الظرف إلا أن هنالك من بين المعاهدات لم تشر إمكانية تجاوز نصوصها مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لسنة 1966، أما اللجنة الأوروبية لحقوق الإنسان وحالة الطوارئ، عرفت الظرف الاستثنائي في المادة15 [31] بالطوارئ العامة، وتحدثت أيضا عن حالة الحرب[32].

يوجد بجانب نظرية الظروف الاستثنائية مصطلحات أخرى، مثل نظرية الضرورة أو حالة الاستعجال، وعلى الرغم من الفوارق الدقيقة بين هذه المصطلحات الثلاثة، فإنها تؤدي جميعا إلى إعطاء الإدارة الحق في التغاضي عن القواعد الموضوعية سلفا للعمل بها في الظروف العادية، ونتيجة لهذه المساحة المشتركة بينهم، فلقد جرت العادة بين كثير من الكتاب على إطلاق أي من المصطلحات الثلاثة للدلالة على الفكرة ذاتها. 

ويرى بعض الفقهاء أن فكرة الظروف الاستثنائية أوسع بكثير من فكرة الضرورة، حيث تقتصر حالة الضرورة على تطبيق فكرة الظروف الاستثنائية في نطاق البوليس الإداري فقط، وذلك بالعمل على توسيع سلطات الضبط الإداري دون غيره من سلطات الدولة في الظروف الاستثنائية، في حين ذهب آخرون إلى عكس ما ذهب إليه أصحاب الرأي السابق، فهم يعتبرون أن فكرة الضرورة أعم وأشمل من فكرة الظروف الاستثنائية، ذلك أن نظرية الضرورة تشمل حالتي الاستعجال والقوة القاهرة، وهما الصورتان المعروفتان للضرورة في نظرهم كما تشمل أيضا الظروف الاستثنائية باعتبارها صورة ثالثة متميزة من صور الضرورة أو حالتها

وأما حالة الاستعجال فإنها تختلف عن كل من الظروف الاستثنائية وحالة الضرورة، فهي تتعلق بزمان ومكان معينين، كما أنها لا تفترض بذاتها وجود أحداث خطيرة المدى أو بعيدة الأثر مثل الظروف الاستثنائية وحالة الضرورة ومثلها إيجاد مأوى لعائلة احترق سكنها .

أما نظرية الظروف الاستثنائية والسلطة التقديرية للإدارة، فيمكن التفريق بينهما في كون الأولى تحكمها شرعية استثنائية محددة سلفا، كما سنبين بعد ذلك، بشروط وضوابط وضعها القضاء، أما الثانية فتحكمها الشرعية العادية وترخص دائما لضمان حسن سير المرفق العام بخلاف الظرف الاستثنائي الذي تقيمه حالة الضرورة

أما نظرية الظروف الاستثنائية ونظرية أعمال السيادة فنجد أن كلاهما يصدر عن السلطة التنفيذية، وكلاهما يعفي السلطة الإدارية من الالتزام بمبدأ المشروعية، إلا أن الفرق بينهما أن الظرف الاستثنائي يبقى تحت رقابة القضاء على عكس أعمال السيادة المحصنة ضد أي طعن، كما أن هذه الأخيرة نظرية دائمة ولا علاقة لها بأي ظرف معين على عكس نظرية الظروف الاستثنائية التي تسند في وجودها على وجود ظرف معين ومؤقت[33].

إذن يلاحظ مما سبق أنه إذا كان على الإدارة الالتزام باحترام القواعد القانونية عند قيامها بنشاطها، فإن هذه القواعد عادة ما تتناسب مع الظروف العادية فحسب، فإذا طرأت ظروف استثنائية كحالة حرب أو فتنة أو وباء أو اضطراب، خطيرة أو كوارث طبيعية كالزلازل أو الفيضانات، وجدت الإدارة نفسها مضطرة من أجل القيام بواجباتها في الحفاظ على النظام العام وتسيير المرافق العامة، لأن تتحلل بعض الشيء من القيود القانونية فتخالف بذلك القواعد القانونية وتخرج على مقتضى مبدأ المشروعية كما هو معروف في الظروف العادية، عملا بالقاعدة المنطقية التي أكدتها الشريعة الإسلامية، "الضرورات تبيح  المحظورات .

فمثلا يمكن للإدارة أن تلغي بواسطة مرسوم قانونا، الشيء الذي حصل في فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى واعتبره مجلس الدولة الفرنسي إجراءا صحيا نظرا لظروف الحرب التي تم فيها (قرار مجلس الدولة heyries الصادر بتاريخ 25 يونيو 1918) حيث أوقفت الحكومة بمجرد مرسوم الفصل 65 من قانون 22 أبريل 1905 الذي يمنح للموظفين المعرضين للتأديب ضمانة حق الحصول على ضمانات قبل اتخاذ أي إجراء تأديبي، . لقد اعتبرت الحكومة الفرنسية في بداية الحرب العالمية الأولى أن احترام هذه الضمانة قد يعرقل اتخاذ العقوبات التأديبية[34]. 

في مثل هاته الظروف الاستثنائية تتسع سلطات هيئة الضبط على حساب حريات الأفراد، وذلك بهدف مواجهة تلك الظروف وتبعا لذلك توجد العديد من النصوص الدستورية والقوانين التي تمنح لجهات الضبط السلطات التي تمكنها من التصرف لإبعاد الخطر والإبقاء على الدولة وإعلاء سلامتها مهما تضمنت من اعتداء على الحريات والحقوق العامة.

والى جانب تلك النصوص والقوانين انشأ القضاء نظريات مكملة للنصوص (الحلول القضائية للظروف الاستثنائية) تضفي المشروعية على بعض أعمال الضبط التي تتخذ المواجهة تلك الظروف، ولا تعني الحلول التشريعية والقضائية للظروف الاستثنائية أن تحلل هيئات الضبط من الخضوع لمبدأ المشروعية في هذه الظروف إذ أن هذه المبدأ يجب أن يكون موضع احترامها في الظروف العادية والاستثنائية على حد سواء ، ولقد تكفل مجلس الدولة الفرنسي بوضع الملامح التي تفيد الإجراء الضبطي في الظروف الاستثنائية (ب)، والتي سنتعرض لها لاحقا.

أ- الحلول التشريعية والقضائية للظروف الاستثنائية: . 

في هذا الصدد فإن المشرع عندما يتوقع ظروفا استثنائية معينة، فإنه يبادر الى وضع التنظيمات اللازمة التي تعد بمثابة حلول تشريعية لها، تلائم بين سلطات الإدارة وبين  الأزمة المتوقعة، بحيث يقرر للإدارة الاختصاصات والسلطات الإدارية وبين الأزمة المتوقعة، بحيث يقرر للإدارة الاختصاصات والسلطات الإضافية التي يرى أنها ضرورية لمواجهة الأزمة، فإذا تحققت الإدارة من قيام الظروف الاستثنائية المنصوص عليها، فإنها تلجأ بشكل فوري إلى استخدام هذه الاختصاصات والسلطات الجديدة [35]. 

والحلول التشريعية للظروف الاستثنائية قد تكون في شكل نصوص دستورية أو قوانین استثنائية أو كليهما معا، وتفرض تلك الحلول قيودا شديدة على ممارسة الأفراد لحرياتهم العامة، كما أنها ترخص للمشرع على أن يحدد شروط استخدام الإدارة للسلطات الجديدة التي تضمنتها الحلول التشريعية للظروف الاستثنائية، فيفرض بعض القيود التي تكفل حسن استخدام هذه السلطات وعدم تجاوز الأهداف الممنوحة من أجله، ونجد أن الحلول التشريعية للظروف الاستثنائية ليست واحدة متماثلة في كل الدول، فكل دولة تتخير الحلول التي ترى أنها أكثر ملائمة لمواجهة هذه الظروف[36].

تختلف التشريعات من دول إلى أخرى في أسلوب وكيفية منع سلطة الطوارئ ومجموعة من الصلاحيات الاستثنائية التي تستطيع بمقتضاها مواجهة الظروف الطارئة ويمكن تقسيم هذه الأساليب إلى ثلاثة أنواع وهي :

+ نظام التشريع السابق الطواري: 

تعد بعض الدول نظاما قانونيا خاصا كحالة الطوارئ تبين فيه الاختصاصات الاستثنائية التي تؤول إلى السلطة التنفيذية فور إعلان هذه الحالة، إضافة إلى أن هذا النظام يحدد أسباب وشروط ومبررات إعلان حالة الطوارئ بحيث متى توافرت هذه الشروط جاز للسلطة المختصة إعلان حالة الطوارئ، وتعد فرنسا في مقدمة الدول التي تأخذ بهذا النظام

+نظام التشريعات المعاصرة للطوارئ

تجدد التشريعات التي تأخذ بهذا النظام أسباب إعلان حالة الطوارئ ومبرراتها، إلا أنها لا تحدد مقدما الاختصاصات الاستثنائية التي تؤول إلى سلطة الطوارئ وإنما يتوقف أمر تحديدها طبقا لما يستجد على أرض الواقع من أحداث وظروف استثنائية، وعليه تكون السلطة التنفيذية ملزمة بالرجوع إلى البرلمان كلما اضطرت إلى اتخاذ تدابير استثنائية المواجهة للموقف العارض، وبالتالي فإن ما تتخذه السلطة التنفيذية يكون بالقدر الذي يكفل درء الخطر عن البلاد، وتعد انجلترا في مقدمة الدول التي تأخذ بهذا النظام

+نظام التشريعات المختلط للطوارئ:

 يحدد هذا النظام أسباب ومبررات إعلان حالة الطوارئ مثل سابقيه، إلا أنه يمتاز بالنص مقدما على مجموعة من الاختصاصات التي تعتبر قائمة، وتطبق بمجرد إعلان حالة الطوارئ، أما سواها من الاختصاصات فإنه لابد من صدور تشريع من البرلمان بها، أو تفويض منه للسلطة التنفيذية، بممارسة هذه الاختصاصات كلما استجدت أحداث وظروف تستدعي زيادة على تلك الاختصاصات المقررة مسبقا، وتعد الولايات المتحدة في مقدمة الدول التي تأخذ بهذا النظام [37].

وفي هذا الصدد، نجد أن الدستور الفرنسي الحالي، يجيز لرئيس الجمهورية إذا ما طرأت ظروف استثنائية اتخاذ كافة التدابير اللازمة لمواجهة كل خطر من شأنه تهديد النظام العام، ويؤدي إلى توقيف السير العادي للمؤسسات الدستورية، كما يمكنه أن يعلن عن حالة الطوارئ بموجب القانون الذي تم تعديله بتاريخ 15 أبريل 1960 في كل الأراضي الفرنسية أو جزء منها متى وجد خطر عاجل يعرض النظام العام لاعتداءات جسيمة، أو متى وجدت أحداث لها بحكم طبيعتها أو خطورتها صفة الكوارث العامة، وينص قانون الطوارئ على سلطات استثنائية واسعة، من بينهما منع مرور الأشخاص والسيارات في الأماكن والأوقات التي يصدر قرار بتحديدها، وتحديد إقامة الأشخاص في المناطق التي تطبق فيها حالة الطوارئ ومنع كل شخص تصدر منه تصرفات تعوق عمل السلطات العامة من الإقامة في كل أو جزء من الإقليم الذي أعلنت فيه حالة الطوارئ... الخ [38].

وفي المغرب ينص الفصل 59 من الدستور الحالي على انه "إذ كانت حوزة التراب الوطني مهددة أو وقع من الأحداث مايعرقل السير العادي للمؤسسات الدستورية، يمكن للملك أن يعلن حالة الاستثناء بظهير بعد استشارة كل من رئيس الحكومة، ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين، ورئيس المحكمة الدستورية وتوجيه خطاب إلى الأمة ويخول الملك بذلك صلاحية اتخاذ الإجراءات التي يفرضها الدفاع عن الوحدة الترابية ويقتضيها الرجوع في اقرب الآجال إلى السير العادي للمؤسسات الدستورية، لا يحل للبرلمان أثناء ممارسة السلطات الاستثنائية، تبقى الحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور مضمونة وترفع حالة الاستثناء بمجرد استيفاء الأسباب التي دعت إليها باتخاذ الإجراءات الشكلية المقررة لإعلانها"، من خلال قراءة متأنية لهذا الفصل يبدو أن حالة الاستثناء تقتضي شروطا موضوعية وأخرى شكلية لإعلانها.

 الشروط الموضوعية لإعلان حالة الاستثناء تنحصر في حالتين : حالة تهديد حوزة التراب الوطني ،أو حالة وقوع أحداث من شأنها عرقلة السير العادي للمؤسسات الدستورية اما  الشروط الشكلية، وتتجلى أساسا في استشارة كل من رئيس الحكومة ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس المستشارين ورئيس المحكمة الدستورية وتوجيه خطاب إلى الأمة

ولم يختلف الدستور الجديد عن سابقيه فيما يخص السلطة التقديرية التي يتمتع بها الملك في إعلان حالة الاستثناء من عدمه. نشير أن المغرب، عرف إعلان حالة الاستثناء بتاريخ 08 يونيو 1965 من طرف الملك، وامتدت هذه التجربة إلى 31 يوليوز 1970 [39] ووفقا لمقتضيات الفصل 74 من الدستور يمكن الإعلان لمدة ثلاثين يوما عن حالة الحصار بمقتضى ظهير يوقعه بالعطف رئيس الحكومة ولا يمكن تمديد هذا الاجل إلا بالقانون. أما إشهار الحرب فيتم اتخاذه وفقا للفصل 99 من الدستور داخل المجلس الوزاري طبقا للفصل 49 من الدستور وبعد إحاطة البرلمان علما بذلك من لدن جلالة الملك غير أن الحلول التشريعية مهما بلغت من الدقة والأحكام غير كافية لمواجهة الظروف الاستثنائية، إذ يتوقع المشرع ظرفا استثنائيا معينا، فيضمن الدستور نصا أو يصدر قانونا معالجا له، ثم يطرأ ظرف استثنائي جديد لم يكن في الحساب، ولم يسبق توقعه وبالتالي لم يسبق توقعه الوضع حلول مناسبة لهولهذه الاعتبارات اضطر القضاء أن يتدخل لسد ما قد يشوب الحلول التشريعية للظروف الاستثنائية من نقص، فيخول للإدارة بالرغم من قصور النصوص السلطات الواسعة التي تمكنها من مواجهة ودفع الأخطار حتى تنتفي الأسباب التي أدت إلى وقوع هذه الظروف.

ومن بين الأساليب التي اعتمدها القضاء الفرنسي كحلول قضائية لمواجهة الظروف الاستثنائية: 

+ التفسير الواسع النصوص الدساتير والقوانين بدل التفسير الحرفي أو الضيق لهذه النصوص: وذلك لجعلها أكثر ملائمة مع الضرورات الملحة والمتطلبات المستعجلة التي تفرضها هذه الظروف، فقد أصدر مجلس الدولة حكمه الصادر بتاريخ 1915/8/6 في قضية (Delmotie) حيث طعن هذا الأخير أمام مجلس الدولة بإلغاء قرار الحاكم العسكري المدينة Annecy الذي أصدر أمرا بإغلاق الحانة المملوكة للسيدDelmotie بسبب حدوث مشاجرات فيها تضر بمصالح الدفاع القومي. واستند الحكم العسكري في إصدار هذا الأمر إلى الفقرة الرابعة من المادة 9 من قانون الأحكام العرفية الصادر في 9 غشت 1849حيث ذهب المفوض coreneille في مذكراته التي أعدها إلى أن قانون الأحكام العرفية هو قانون استثنائي يختلف عن القوانين العادية، ولذلك لا يجب تفسيره على النحو الذي تفسر به هذه القوانين، ولكن يجب أن يفسر تفسيرا واسعا يتلاءم مع ضرورات الظروف الشاذة، وطبقا لهذا التفسير الواسع تعتبر الحانات أماكن معدة لعقد اجتماعات فيها، وبالتالي ينطبق، عليها حكم الفقرة الرابعة من المادة التاسعة من قانون الأحكام العرفية، فتملك السلطة العسكرية أن تصدر أوامرها بإغلاقها، وقد تبنى مجلس الدولة الفرنسي وجهة نظر مفوضه وانتهى المجلس إلى رفض الطعن المقدم من طرف مالك الحانة

+ الترخيص للسلطة العمومية بمخالفة القوانين وتقرير اختصاصات جديدة لها لا يوجد لها سند في القانون في ظل الظروف الاستثنائية حتى يستطيع معالجة بكافة الوسائل المتاحة لها: المواقف التي تعرض للخطر الأمن والنظام العام، ومن بين القضايا التي اصدر فيها مجلس الدولة حكمه يؤيد فيه موقف الدولة، قضية العاملين بالسكك الحديدية والتي تتلخص وقائعها في أن العاملين بالسكك الحديدية أعلنوا عن عزمهم على القيام بإضراب فاستصدرت الحكومة قرارا من وزير الحربية في نونبر 1910 يقضي بإلزام العاملين بقطاع السكك الحديدية على قضاء الخدمة العسكرية وذلك من اجل إحباط الإضراب، فبادرت نقابة العاملين إلى الطعن في قرار وزير الحربية بإلغائه مدعية أن وزير الحربية قد تجاوز سلطته عندما استعمل حقه في التجنيد لإحباط الإضراب، في حين أن القانون يحدد الغرض من التجنيد هو أداء ضريبة الدم، فرفض مجلس الدولة هذا الطعن استنادا على انه وان كان وزير الحربية لم يقصد بقراره تحقيق الغرض الذي ينص عليه قانون الخدمة العسكرية، إلا أنه يكفل استمرار سير مرفق السكك الحديدية باعتباره مرفقا حيويا وان في استمرار سیره ضرورة لحماية امن الدولة ومصالح الدفاع القومي[40].

 ب- قيود وضوابط الإجراءات الشرطية في الظروف الاستثنائية :

 تخضع تصرفات سلطات الضبط خلال الظروف الاستثنائية لقيود وضوابط ولقد تكفل مجلس الدولة الفرنسي بوضع الملامح التي تقيد وتحدد الإجراء الضبطي في الظروف الاستثنائية، حيث تكون لمقتضيات الدفاع عن الدولة، وقد عبر عن هذه الأبعاد مجلس الدولة الفرنسي في حكمه الشهير (dol et lauraut) فقرر أنه "لا تستوي القيود المفروضة على سلطات الضبط الإداري في وقت السلم ووقت الحرب، فمصالح الأمن القومي زمن الحرب توسع من مفهوم ومتطلبات النظام العام، كما تبرر ضبطا إداريا أكثر شدة". 

ويمكن حصر القيود والضوابط التي يجب أن تخضع إليها الإجراءات الشرطية التي تتخذها السلطات العامة خلال الظروف الاستثنائية فيما يلي:

1- أن يكون الإجراء قد اتخذ خلال الظروف الاستثنائية

لإضفاء المشروعية الاستثنائية على تصرفات هيئات الضبط في الظروف الاستثنائية، ولتبرير ما اتخذ من إجراءات خلال تلك الظروف، يتعين عليها أن تثبت أن هنالك ظروفا استثنائية لم تضمنها القوانين العادية أو القوانين الاستثنائية، وأن تلك الإجراءات الاستثنائية قد اتخذت خلال تلك الظروف الاستثنائية، ترتيبا على ما تقدم فعندما تطرح على القاضي الإداري قضية تدعي فيها قيام ظروف استثنائية لتبرير ما اتخذته من إجراءات فإنه يتحقق من وجود هذه الظروف، ومن أن الإجراءات الاستثنائية قد اتخذت خلالها، فالمسألة أولا وأخيرا مسألة وقائع يقدرها القاضي الإداري في ضوء الظروف الزمانية والمكانية التي تحيط بها، وهو ما أكده مجلس الدولة الفرنسي في العديد من أحكامه فمن ذلك ما قضى به بتاريخ 1946/5/3 في قضية veuve-goguet من عدم مشروعية القرار الذي اتخذه رئيس بلدية مدينة nantes بالاستيلاء على شقة مملوكة لإحدى السيدات لتقيم بها إحدى العائلات التي نزحت من المناطق التي كانت مسرحا للعمليات الحربية في فرنسا خلال الحرب العالمية الثانية، ذلك أن المصاب والظروف التي واجهتها الإدارة في المدينة جعلها لا تتردد في إصدار قرار الاستيلاء [41].

2- أن يكون إجراء الضبط الاستثنائي ضروريا ولا زما

إن القيود التي يمكن فرضها على ممارسة الحريات العامة يجب أن تكون بالقدر وفي الحدود الضرورية التي تبيح لسلطة الشرطة الإدارية القدرة على مواجهة الأخطار الفعلية الناتجة عن الظروف الاستثنائية، وذلك تأسيسا على قاعدة أن الضرورة تقدر بقدرها؛ بمعنی أنه إذا كانت ممارسة الحريات لا تؤثر في قدرة الإدارة على مواجهة هذه الظروف، ففي هذه الحالة يسمح لهذه الممارسة بأن تؤدي دورها إلى حدود القدر التي يمكن أن تؤثر فيه على قدرة الإدارة على مواجهة تلك الظروف، أي يتعين أن تعطل أو تقف ممارسة الحرية عند نقطة تعارضها مع قدرة السلطة الشرطية على مواجهة الأخطار، وهو ما يمكن التعبير عنه بأن المشروعية الاستثنائية تجد سلامتها في ضرورتها[42].

لذلك فإن إجراء الضبط الإداري لا يعتبر مشروعا إلا إذا كان ضروريا من اجل الحفاظ على النظام العام، وهذا هو السبب الذي يدفع بالقضاء إلى بحث كافة الظروف الواقعية المبررة لاتخاذ هذه الإجراءات.

لذا يقوم القضاء الإداري بالتحقق من أن مواجهة الظروف الاستثنائية يتطلب اتخاذ إجراء استباقي لا تسعف التشريعات السارية، وهو ما يعني ضرورة الإجراء الاستثنائي ولزومه لمتطلبات الحالة، فإذا ثبت له أن الإدارة كانت تستطيع أن تتغلب على المصائب الناتجة عن الظروف الاستثنائية القائمة بما تملكه من سلطات ووسائل تنص عليها التشريعات السارية ومع ذلك اتخذت إجراء استثنائيا لا تجيزه هذه التشريعات، فإنه يحكم بإلغاء الإجراءوبالتالي لا بد من وجود الإجراء الضبطي الإداري الاستثنائي لمواجهة الحالة، لكونه الوسيلة الأنجع لمواجهة هذا الظرف الطارئ، علما أن رقابة القضاء لا تقتصر على مشروعية وسيلة الضبط المتخذة بل يراقب أيضا ملاءمتها لأسباب التدخل تحت قاعدة "تناسب مدى الإجراءات مع خطورة الظرف الاستثنائي"، لذا يجب عدم التوسع في صلاحيات الضبط الإداري بل تكون ضمن الحد المعقول في مجابهة الظرف الاستثنائي وفي فترة لا تتجاوز نهايتها لأن "الضرورات تبيح المحظورات".

وتطبيقا لذلك، فلقد قضى مـجلس الــــدولة الفرنسي في حكــــمه الصادر بتاريخ 1958/01/31 بإلغاء قرار الحاكم الفرنسي للهند الصينية والصـادر في 1947/09/27  والخاص بإنشاء نظام المساعدات العائلية لصالح العاملين بالمشروعات الخاصة، وأسس مجلس الدولة حكمه على أن هذا الإجراء المخالف للقانون الصادر في 1954/05/03 لم يكن ضروريا ولازما لمواجهة الظرف الاقتصادي والاجتماعي الذي كان قائما في الهند الصينية في تاريخ صدور قرار الحاكم، والناتج عن حالة الحرب التي كانت هذه البلاد مسرحا له في ذلك الوقت، وأنه كان بإمكان الحاكم أن يتغلب على المصاعب الناتجة عن هذا الموقف بالوسائل والسلطات التي يملكها بموجب التشريعات السارية [43].

3- أن يكون الإجراء ملائما مع الظروف الاستثنائية 

يجب أن يكون الإجراء الاستثنائي ملائما ومناسبا للظرف الاستثنائي الذي أوجبه، ويعني ذلك أنه يستوجب على سلطة الشرطة الإدارية أن تتصرف طبقا لما تقتضيه مواجهة هذه الظروف الاستثنائية، وذلك بالقدر الذي يكفي لمعالجة هذه الظروف دون الاستثنائية  ذلك بالقدر الذي يكفي لمعالجة هذه الظروف دون إفراط ولا تفريط، بحيث يتعين عليها أن تراعي جانب الحرص والحذر في تصرفها، وأن تختار من الوسائل أقلها ضررا بالأفراد طالما كانت هذه الوسائل تهدف إلى توقي الأخطار المهددة للأمن العام.[44]

وتطبيقا لذلك، فقد قضى مجلس الدولة الفرنسي في حكمه الصادر بتاريخ 1962/10/19 في قضية canal بإلغاء الأمر الذي أصدره رئيس الجمهورية في أول أكتوبر 1962 بإنشاء محكمة عسكرية خاصة لمحاكمة المتهمين بالاشتراك في التمرد الذي قام به الجيش الفرنسي المرابط بالجزائر بتاريخ 1969/04/21 ، ذلك أن الظروف التي تم إنشاء فيها هدا القضاء الاستثنائي طبقا لها، لم تكن على درجة كبيرة من الخطورة تبرر الاعتداء على المبادئ العامة للقانون وبصفة خاصة فيما يخص حقوق الدفاع [45].

4-خضوع الإدارة في ممارستها لسلطات الظروف الاستثنائية لرقابة القضاء :

يلعب القاضي الإداري دورا أساسيا في مراقبة الإدارة لاحترام تلك الشروط، بحيث لا تخرج أعمال الإدارة في الظروف الاستثنائية من رقابة القضاء، إذ يراقب القضاء الإداري أعمال السلطة التنفيذية في الظروف الاستثنائية ويتأكد من قيام هذه الظروف، كما يتأكد من أن تصرف هذه السلطة على النحو الذي قامت به كان ضروريا لمواجهة الحالة باعتباره الوسيلة الوحيدة لمواجهة الموقف، ويتأكد كذلك من كون أن هدف الإدارة وغايتها من هذا الإجراء الاستثنائي هو ابتغاء المصلحة العامة

ويمكن للأفراد أن يطالبوا الإدارة أمام القضاء بتعويضات عن الأضرار التي أصابتهم من جراء تصرفاتها في فترة الظروف الاستثنائية، إلا أنه يلاحظ أن القضاء الإداري لا يبسط رقابته على القرار الإداري من حيث الاختصاص أو الشكل أو المحل وتبعا لذلك القرار الذي يخرج عن حدود اختصاص مصدره، أو الذي لا يراعى في إصداره الشكل المطلوب أو الذي يخالف القوانين واللوائح يمكن أن يعتبر مشروعا إذا توافرت الظروف الاستثنائية التي تبرر ما به من عيب

أما فيما يتعلق بسبب القرار الإداري وغايته، فإنه لا يمكن التجاوز عما يلحقه من مخالفة، فسبب القرار الإداري و هو الحالة الواقعية المتمثلة في الظرف الاستثنائي، هو في الحقيقة المبرر الذي دفع الإدارة إلى اتخاذ الإجراء الاستثنائي والذي دفع القضاء أيضا إلى توسيع مجال المشروعية واعتبار الإجراء مشروعا رغم عدم مشروعيته في الظروف العادية، وأيضا الغاية من القرار الإداري يجب أن تكون في جميع الأحوال هي المصلحة العامة، إذ أن تحقيق هذه المصلحة والحفاظ على كيان المجتمع وسلامته أيا كانت الظروف هو المقصود الحقيقي من تقرير نظرية الظروف الاستثنائية.

نلاحظ في الأخير أن القضاء الإداري خصوصا مجلس الدولة الفرنسي يرجع إليه الفضل في رقابة أعمال الإدارة التي يقوم بها أثناء الظروف الاستثنائية وذلك لمعالجة حالات الضرورة التي يمكن أن تواجه الإدارة، لكن يجب ألا ننسى دور المشرع الدستوري أو العادي الذي كثيرا ما يتدخل مباشرة ويضع القواعد القانونية لمواجهة الظروف بقدر من السلطة الاستثنائية إلا أن هذا لا ينقص من أهمية نظرية الظروف الاستثنائية التي أقامها القضاء فبواسطتها يمكن تكمله ما قد تعتري التشريعات من نقص أو قصور .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

                                                                                                                     



-[1]    كريم لحرش، القانون الإداري المغربي، الجزء الثاني نشاط الادارة و امتيازاتها الطبعة الثالثة مزيدة ومنقحة ،مطبعة الامنية 2014 الرباط   ، ص، 435 

-[2]    محمد البعدوي، الشرطة الإدارية وإشكالية الموازنة بين الحفاظ على النظام العام وضمان الحريات، منشورات المجلة المغربية للإدارة المحلية و التنمية ، سلسلة اعمال ومؤلفات جامعية  العدد 102 الطبعة الثانية 2014 ، ص 196 .

 

-[3]    جلطي أعمر، الأهداف الحديثة للضبط الإداري، اطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام جامعة ابي بكر بلقايد تلمسان   كلية الحقوق و العلوم السياسية الجزائر، السنة الجامعية 2015/2016 ص، 301. 

-[4]    حبيب ابراهيم حمادة الدليمي، حدود سلطة الضبط الإداري في الظروف العادية دارسة مقارنة منشورات الحلبي الحقوقية بيروت لبنان الطبعة الاولى  2015، ص، 289

-[5]    عبد القادر باينة، الرقابة على النشاط الإداري، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة في القانون العام من جامعة باريس سنة 1980 طبعة دجنبر 2010، ص، 36.

-[6]    كريم لحرش، القانون الإداري المغربي، الجزء الثاني، نشاط الإدارة وامتيازاتها، م. س، ص، 436. 

 

-[7]    حبيب إبراهيم الدليمي، حدود سلطة الضبط الإداري في الظروف العادية، دراسة مقارنة، مس، ص، 291

-[8]    محمد البدوي، الشرطة الإدارية وإشكالية الموازنة بين الحفاظ على النظام العام وضمان الحريات، م. س، ص 167.

-[9]     حبيب إبراهيم حمادة الدليمي، حدود سلطة الضبط الإداري في الظروف العادية دراسة مقارنة، م. س، ص، 292. 

-[10]    حكم المحكمة الإدارية بمكناس، العدد 3.96.19 بتاريخ 30.1.1996 منشورات  المجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية  ، العدد 17 ص، 162

-[11]    محمد البعدوي، الشرطة الإدارية وإشكالية الموازنة بين الحفاظ على النظام العام وضمان الحريات، م. س، ص169 

-[12]    سليماني هندون، سلطات الضبط في الإدارة الجزائرية، جامعة الجزائر 1 كلية الحقوق ،تخصص ادارة مالية السنة الجامعية 20122013-، ص 195 

-[13]    القرار عد540 المؤرخ في 2008/06/25 ملف إداري عدد 2004/1/4/2301 منشور بالمجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية  عدد 116ص 147-149 

-[14]    القرار عد540 المؤرخ في 2008/06/25 ملف إداري عدد 2004/1/4/2301 منشور بالمجلة المغربية للإدارة المحلية والتنمية  عدد 116ص 147-149

-[15]    د. محمد البعدوي، الشرطة الإدارية و إشكالية الموازنة بين النظام العام وضمان الحريات م. س، ص، 174 

-[16]     سليماني هندون، سلطات الضبط في الإدارة الجزائرية م. س، ص، 195. 

-[17]     کريم لحرش، القانون الإداري، الجزء الثاني، نشاط الإدارة م. س، ص، 437

-[18]    قرار مؤرخ في 1928/7/27 أورده حبيب إبراهيم الدليمي، سلطة الضبط الإداري في الظروف العادية دراسة مقارنة م. س، ص، 281. 

-[19]    دايم بلقاسم، النظام العام الوضعي والشرعي و حماية البيئة ،اطروحة لنيل دكتوراه الدولة  في القانون العام ،جامعة ابي بكر بلقايد تلمسان ،كلية الحقوق والعلوم السياسية، السنة الجماعية 2003-2004، ص، 111

-[20]    حكم محكمة القضاء الإداري في القضية رقم 508 لسنة 3 بتاريخ 9.6.1949 منشور في مجموعة أحكام القضاء الإداري السنة الثالثة ص. أورده محمد البدوي، الشرطة الإدارية وإشكالية الموازنة بين الحفاظ على النظام العام وضمان الحريات م. س، ص، 177

-[21]    محمد البعدوي، الشرطة الإدارية وإشكالية الموازنة بين الحفاظ على النظام العام و ضمان الحريات م. س، ص 178

-[22]     حبيب إبراهيم حمادة الدليمي، حدود سلطة الضبط الإداري في الظروف العادية دراسة مقارنة م. س، ص، 305.. 305-

-[23]     محمد البعدوي، الشرطة الإدارية وإشكالية الموازنة بين الحفاظ على النظام العام وضمان الحريات م. س، ص، 178. 

-[24]    أمير حسن جاسم، نظرية الظروف الاستثنائية وبعض تطبيقاتها المعاصرة ، مقالة على الرابط الإلكتروني التالي

Tsitmails3.s3-website-eu-west-1.amazonaws.com vu le 23/06/2022 a 14:30h.

-[25]    الآية 173 من سورة البقرة.

+احل به لغير الله: ما ذبح لغير الله وذكر عليه غير اسم الله..

+ غير باغ: قاطع سبيل

ولا عاد: مفارق الجماعة. 

-[26]    الآية 106 من سورة النحل

-[27]    د. نوال بن الشيخ، الضبط الإداري وأثره على الحريات العامة م.س، ص، 30. 

-[28]    محمد البعدوي، الشرطة الإدارية و إشكالية الموازنة بين الحفاظ على النظام العام و ضمان الحريات مس، ص، 181. 

 

-[29]    المادة 04، العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياحية المؤرخ في 16 دجنبر 1966، يمكن الاطلاع على النسخة العربية منه على الرابط التالي

www.hrlibary.umr.edu/arab/boo3.html vu le 1/7/2022 a 19:17h.

-[30]    الاتفاقية الأوروبية لحقوق الانسان في نطاق مجلس أوربا، روما 4 نوفمبر 1950 المادة 15. 

يمكن الاطلاع على النسخة العربية على الرابط التالي: 

www.hilibray.umr.edu/arab/euhcim.ntml vu le 24/07/2022 a 19:20h 

-[31]    نوال بن الشيخ، الضبط الإداري وأثره على الحريات العامة ،مدكرة ماستر اكاديمي شعبة الحقوق ،تخصص قانون اداري ،جامعة قاصدي مرباح ،ورقلة كلية الحقوق و العلوم السياسية ،قسم الحقوق ،السنة الجامعية 2012 2013- ص 31 

-[32]    نوال بن الشيخ، الضبط الإداري وأثره على الحريات العامة، م. س، ص، 31.

 

-[33]    نوال بن الشيخ، الضبط الإداري وأثره على الحريات العامة، م. س، ص، 33

-[34]    عبد القادر باينة، الرقابة على النشاط الإداري، م. س، ص، 37.

-[35]    سليمانی هندون، سلطات الضبط في الإدارة الجزائرية، م. س، ص، 197.

-[36]    سليماني هندون، الشرطة الإدارية و إشكالية الموازنة بين الحفاظ على النظام العام و ضمان الحريات العامة م. س، ص، 198 

-[37]    محمود أبوصوي، حالة الطوارئ في الوطن العربي وتقييد حقوق الإنسان دراسة مقارنة. و ال على الرابط التالي

www.dustour.org/media-library/publications.../emergoncy-state. vu le 23/06/2022

-[38]    محمد البعدوي، الشرطة الإدارية و إشكالية الموازنة بين الحفاظ على النظام العام وضمان الحريات العامة م. س، ص، 181

-[39]    بودريبلة  السعدية، في مستجدات التنظيم الإداري المغربي، في مستجدات التنظيم الاداري بالمغرب ،الادارة المركزية واللامركزية في اطار دستور 2011 والقوانين التنظيمية الخاصة بالجماعات الترابية ،مطبعة سجلماسة  مكناس 2016 ص، 39. 

 

-[40]    محمد البعدوي، الشرطة الإدارية وإشكالية الموازنة بين الحفاظ على النظام العام وضمان الحريات م. س، ص، 185. 

 

-[41]    سليماني هندون، سلطات الضبط في الإدارة الجزائرية، م. س، ص، 199.

-[42]    كريم لحرش، القانون الإداري المغربي الجزء الثاني ،نشاط الإدارة م. س، ص، 441. 

-[43]    غلاي حياة الرقابة القضائية على سلطات الضبط الإداري في الظروف الاستثنائية، مقال منشور بالموقع الاتي

ww.droitetentriprise.com vu le 24-08-2022

-[44]    كريم لحرش، القانون الإداري المغربي الجزء الثاني ،نشاط الإدارة م. س، ص، 441. 

-[45]    غلاي حياة، مقالة بعنوان الرقابة القضائية على سلطات الضبط الإداري في الظروف الاستثنائية على الرابط الالكتروني التالي

   www.droit entreprise. com

 


3 تعليقات

أحدث أقدم