المهدي عملوك
باحث في
القانون العام –المغرب -
يقصد بحدود ممارسة الشرطة الإدارية المدى أو النطاق المتاح أما هذه الهيئات وهي بصدد استخدام ما تتوفر عليه من وسائل في سبيل تحقيق المهام أو الأغراض المنوطة بها، أو المدى الذي تستخدم فيه هذه الهيئات سلطاتها وامتيازاتها، ذلك أن هذه الوسائل أو السلطات، إنما أعطيت لهيئات الضبط الإداري بهدف الحفاظ على النظام العام بمختلف مكوناته ومدلولاته وحمايته[1]،
ذلك
أن مشكلات وقاية النظام العام لا يمكن التنبؤ بها مقدما، حيث تتحكم في نشوئها ظروف مفاجئة ومتغيرة قد لا يكون القانون قد استعد لها ونسق أوضاع مواجهتها، وبالتالي تكون الإدارة هي الأقدر على سرعة التصرف إزاء ما تتطلبه ضرورة المحافظة على النظام العام من إجراءات الحيطة والحذر، خصوصا وأن سلطاتها واسعة بالاستناد إلى نصوص تشريعية، غير أن هذا لا يعني أن تصبح صلاحيات الشرطة الإدارية مطلقة من غير قيود أو ضوابط، ذلك أنه يخشى أن تتجاوز سلطة الشرطة الإدارية حدودها فيكون هناك شطط في استخدام امتيازاتها وسلطاتها لغير صالح الأفراد فتنقلب وظيفتها إلى وظيفة مستبدة تهدر حقوق وحريات الأفراد، لذلك فقد روعي أن يكون تدخلها في تنظيم الحرية بأساليب متفاوتة لا تفضي إلى التضحية بها في سبيل الحفاظ على النظام العام [2].
إن السلطة الإدارية تعمل على التوفيق بين الحريات الفردية ومقتضيات الحفاظ على النظام العام، وهذا في حالة كون تلك الحريات منصوص عليها بالدستور والقانون، فالسلطة الإدارية مقيدة ومجالها محصور وضيق وهو مجال تلك الفئة الأولى من الحريات، وثمة فئة ثانية من الحريات لم ينص عليها الدستور ولا القانون، وهي الحريات الخاصة، مثل إنشاء المقاهي أو إقامة الاستعراضات والمواكب والمعارض..، وغير ذلك من الأنشطة فسلطة الضبط تتمتع بسلطة واسعة في تقييدها بما يتراوح وحدها الأدنى والأعلى، وبحسب نوعية ودرجة الجسامة والآثار الناتجة عن ممارسة هذا النوع من الحريات المرخص بممارستها، وهذا لا يمنع الإدارة من التدخل لتقييد الحريات المنصوص عليها بالدستور تحسبا للضرورة التي يتطلبها الظرف المحيط، ومدى تهديده للنظام العام، وفي هذا المجال مثلا، قضی مجلس الدولة الفرنسي في قضية رئيس بلدية أورليان بتاريخ 15 جوان 2001 برفض قرار العمدة القضائي بمنع الأحداث الأقل من 13 سنة من التجوال إذا لم يكونوا برفقة أوليائهم، وذلك أثناء الليل ابتداء من الساعة الحادية عشر إلى السادسة صباحا في الأحياء المحددة فقط، فألغي بذلك مجلس الدولة الفرنسي قرار رئيس البلدية على أساس تجاوز السلطة وكذلك على أساس الإخلال بمبدأ المساواة [3].
وفي هذا الصدد تكفل القضاء الإداري، ببيان شروط أداء سلطات الشرطة الإدارية لوظيفتها والتي يجب الالتزام بها بحيث يترتب على مخالفتها، عدم مشروعية الإجراءات المتخذة في هذا الخصوص وتكون عرضة للإلغاء خصوصا في الظروف العادية، (الفقرة الاولى) أما في الظروف الاستثنائية (الفقرة الثانية ) فإن لسلطة الضبط الإداري أن تتخذ من الإجراءات اللازمة لمواجهة تلك الظروف ولو اقتضى ذلك الخروج عن قواعد المشروعية العادية، إذ يجيز القضاء الإداري لسلطة الضبط الإداري أن تتخذ من الإجراءات اللازمة للحفاظ على النظام العام، بالقدر الضروري لمواجهة الظروف الاستثنائية[4].
الفقرة الاولى : ممارسة
الشرطة
الإدارية
في
الظروف
العادية:
يتطلب احترام مبدأ الشرعية أن تكون الظروف التي تعمل فيها الإدارة ظروفا عادية وبالتالي تكون الإدارة ملزمة باحترام النصوص التشريعية والتنظيمية والقواعد العامة الخاصة بسير المرافق العامة، والحفاظ على النظام العام[5].
واستطاع القضاء أن يخرج العديد من المبادئ وهو يتصدى لرقابة مشروعية تدابير الشرطة الإدارية، معياره الحاسم والجوهري في ذلك، فلسفة التوازن بين تحقيق متطلبات النظام العام ومتطلبات الحريات، بحيث أصبح مدى الإجراء الذي تتخذه الإدارة متوقفا على مدى تقديرها لممارسة الحرية التي يواجهها[6] هذه المبادئ يمكن إجمالها فيما يلي:
اولا: أن تكون إجراءات الضبط الإداري ضرورية ، لازمة وفعالة:
بمقتضى هذا القيد فإن إجراءات الضبط الإداري يجب أن تستهدف القضاء على المخاطر الحقيقية المهددة للنظام العام، أي يجب في مثل هذه الحالة أن يكون هنالك تهدید حقيقي للنظام العام يستلزم اتخاذ الإجراءات الكفيلة لحمايته، ويترتب على ذلك أن الخلل البسيط للنظام العام أو مجرد تعكير صفوه، لا يجيز لسلطة الضبط أن تتخذ الإجراءات التي قد تقيد الحريات العامة، طالما كان لهذه اتخاذ الاحتياطات المناسبة بالحفاظ على النظام العام.
وحيث يشترط في إجراءات الضبط الإداري أن تكون ضرورية، فإن الضرورة بهذا الصدد تقدر بقدرها، أي أن ضرورة الإجراء الضبطي لابد أن تقدر بحسب جسامة التهديد الفعلي الحاصل للنظام العام، بحيث يكون الإجراء المتخذ من قبل سلطة الضبط الإداري هو الواجب القيام به دون غيره من الإجراءات الأخرى لتجنب الأخطار المهددة للنظام العام، المتاحة أمام سلطة الضبط الإداري، ويترتب على ذلك أن تكون الإجراءات المتخذة في هذه الحالة غير مشروعة متى ما كان هنالك من الإجراءات التي يمكن اتخاذها وتكون أقل تقييدا أو إعاقة للحريات العامة.
ومن مقتضيات ضرورة إجراءات الضبط الإداري أنه لا يجوز لسلطة الضبط الإداري أن تطلب من الأفراد القيام بعمل ما أو الامتناع عن القيام بذلك، طالما كان هنالك تصرف يمكن القيام به من قبلها بدلا عنهم وبصورة سهلة ويسيرة، ومحققا للغاية المراد تحقيقها في الحفاظ على النظام العام، بمعنى أخر أنه لا يجوز لسلطة الضبط اتخاذ إجراءات أيسر لها في الحفاظ على النظام العام، إلا أنها أشق على الأفراد عند ممارسة حرياتهم [7].
ثانيا :كما يشترط في الإجراء الشرطي كي يكون مشروعا أن يكون ضروريا أي أن يكون لازما لمواجهة خطر حقيقي قد يؤدي إلى حدوث اضطراب، ذلك أن الأخطار أو الاضطرابات البسيطة ليس من شأنها أن تكون مبررة لاتخاذ تدابير ضبطية، وتعد حالة الاستعجال في ميدان الشرطة من الأمور الأساسية ذلك لأن توافرها يجعل إجراء الضبط مشروعا[8].
وقد استقرت أحكام القضاء الإداري على وجوب أن تكون إجراءات سلطة الضبط الإداري ضرورية ولازمة، حيث قضى مجلس الدولة الفرنسي بإلغاء القرار المتخذ من سلطة الضبط الإداري والمتضمن منع عقد أحد الاجتماعات العامة بادعاء المحافظة على النظام العام، بعدما تبين أثناء نظره لدعوى الإلغاء بأن الظروف المحيطة بالقضية، لم تشر إلى أن التهديد الحاصل بالنظام العام كان من الخطورة التي تبرر إلغاء الاجتماع، إذ كان أمام سلطة الضبط الإداري أن تتخذ من الوسائل المتاحة أمامها للحفاظ على النظام العام، مع السماح بعقد الاجتماع العام، قرار مجلس الدولة الفرنسي في 19 مايو 1933 في قضية السيد بنجامين، عندما أصدر عمدة Nevers قرارا بمنع عقد الاجتماعات خشية وقوع الاضطرابات تخل بالنظام العام[9].
وقد طبق القضاء الإداري المغربي هذه القاعدة فقد جاء في الحكم الذي أصدرته المحكمة الإدارية بمكناس ما يلي "إن كل قرار إداري اتخذ في غياب احترام الإجراءات المنصوص عليها في الفصل الثاني من المرسوم عدد 157.78 بتاريخ 26.5.1980 الخاص بتحديد الشروط التي تنفذ
بها
تلقائيا التدابير الرامية إلى استتباب
الأمن
وضمان سلامة المرور والصحة العمومية يعتبر مشوبا بعيب مخالفة القانون..."
قرار
سحب رخصة استغلال مقهى اعتبرته المحكمة الإدارية بمكناس مخالفا للقانون لأن السلطة الإدارية التي اتخذته لم تعذر المدعي من أجل إصلاح الوضع واتخاذ التدابير اللازمة التي تحد من الإخلال بالأمن وصحة المواطنين[10].
وحيث يشترط في إجراءات الضبط الإداري أن تكون فعالة ومؤثرة، فإن المقصود من ذلك هو أن تكون الإجراءات المذكورة حاسمة في المحافظة على النظام العام. وتوخي ما يحيط به من أخطار محققة، لذا فإن عدم تحقيق الغاية من الإجراءات المتخذة إنما تجعل منها إجراءات غير فعالة، ولا يجوز الاستناد إليها وبالتالي لا يمكن الاعتداد بها عموما.
ثانيا:أن يكون التدبير متناسبا مع طبيعة وجسامة الاضطراب المراد تفاديه:
يشترط في التدبير الضابط أن يكون متناسبا مع مدی جسامة الاضطراب الذي تهدف الإدارة إلى تفاديه، فإذا كان الاضطراب قليل الأهمية، فلا يجب أن تكون التضحية بكامل الحرية أو تقيدها في المجال الأكبر لها، ويستلزم ذلك ضرورة النظر إلى منزلة الحرية التي يراد المساس بها لاتقاء الخطر، وترتيبا على ذلك فلا يجوز التضحية بحرية عليا من أجل الخشية من الإخلال بمظهر بسيط من مظاهر ممارسة حرية أدنى[11].
ويلاحظ أن تحقيق التناسب في إجراءات الضبط الإداري، على ضوء أحكام القضاء الإداري الفرنسي إنما يتم من خلال تقديم ثلاثة عناصر ضمن نطاق الصراع بين السلطة والحرية والتي يمكن إجمالها في ما يلي:
-1 تقدير جسامة الاضطراب أو الخلل
يجب أن تكون إجراءات الضبط متناسبة مع درجة الإخلال بالنظام المتعين تداركها فإذا كان الإخلال بالنظام قليل الأهمية ففي هذه الحالة لا يجوز التضحية بالحرية من أجل حفظ النظام أما إذا كان الإخلال بالنظام يتسم بالخطورة فإن الاعتداء على الحرية يجد سند تبريره حينئذ، وهذه التفرقة تبدو واضحة بصفة خاصة في حالة الحرب والظروف الاستثنائية.[12]
ويعمل القاضي الإداري على مراقبة تقدير سلطة الضبط الإداري لخطورة الاضطراب أو التهديد الحاصل للنظام العام، والمراد تفاديه من قبلها، بحيث لا يمكن تبرير المساس بحرية الأفراد من قبلها ما لم تكن هنالك اضطرابات جسيمة مهددة للنظام العام، إذ لا تقتصر الرقابة القضائية بهذا الصدد على مجرد توافر التهديد بالنظام العام، بل تمتد تلك الرقابة لبحث التناسب بين إجراءات سلطة الضبط الإداري مع الوقائع التي كانت سببا دافعا في اتخاذها.
2
-تقدير الإجراءات الإدارية ذاتها ( تقدير
شدة
الاعتداء على الحرية)
تخضع الإجراءات الإدارية التي تتخذها سلطة الضبط التقدير بحد ذاتها ،إذ لا يمكن تبرير اتخاذ تلك الإجراءات إلا لغرض تفادي تهديد حقيقي وجسيم للنظام العام، بحيث يكون ذلك مدعاة لتقييد ممارسة الحريات العامة، لذا قضى مجلس الدولة الفرنسي بإلغاء القرار الصادر من سلطة الضبط الإداري والمتضمن منع الاجتماعات المراد تنظيمها من طرف الأحزاب الشيوعية ضد الحرب الهندية الصينية (نهاية عام 1949 وبداية عام 1947) بعد ما تبين له بأن تلك الاجتماعات لم يكن من شأنها تهديد النظام العام، إذ كان أمام سلطة الضبط اتخاذ الاحتياطات المتاحة أمامها للحفاظ عليه.
ويلاحظ في هذا الصدد أن على سلطة الضبط الإداري وقبل اتخاذها إجراءات الضبط أن تعمل على تقدير الظروف المتاحة أمامها، والتي تبرر اتخاذ تلك الإجراءات وبالتالي فإن عليها اتخاذ الحيطة عند اتخاذها لإجراءات الضبط إلا بالقدر الذي تقتضيه الحالة الواقعية وعلى ضوء الظروف المحيطة بها، إذ أن في ذلك اقل خطورة على ممارسة الحريات العامة من فرض قيود مسبقة، [13]وذلك باعتبار سلطات الشرطة الإدارية هي سلطات مقيدة في الأصل ولا يمكن أن تكون تقديرية بأي حال من الأحوال حسب بعض الآراء الفقهية، وعلى عكس ذلك أقرت محكمة النقض في قرار عدد 540 بتاريخ 2018/06/25 بأن[14]
السلطات الأمنية تتوفر على قدر من السلطة التقديرية يخولها اتخاذ الحيطة والحذر كلما قامت أسباب أو قرائن أو دواعي ذات صلة بالمصلحة العليا للبلاد".
3- تقدير النشاط الفردي ذاته (قيمة الحرية)
في ضوء التنوع والتغاير الذي تنطوي عليه الحريات من حيث طبيعتها، ظروف ممارستها ومدى تأثير هذه الممارسة على النظام العام، وذلك لاعتبار أن الحريات ليست كلها بنفس الأهمية والدرجة، إذ أن بعضها تعتبر جوهرية وذات قيمة أساسية بالنسبة للحريات الأخرى، قد استطاع القاضي أن يستخرج العديد من المبادئ وهو يتصدى لرقابة مشروعية تدابير الشرطة وكان معياره الحاسم والجوهري في ذلك يقوم على أساس فلسفة التوازن بين تحقيق متطلبات النظام العام ، ومطالب ممارسة الحريات بحيث أصبح مدى الإجراء الذي تتخذه الإدارة متوقفا على مدى تقديرها لممارسة الحرية التي يواجهها [15].
وتطبيقا لقاعدة التناسب يتعين في تدابير الضبط التي تلجأ إليها الإدارة في كل حالة أن تكون متوافقة مع الظروف الخاصة التي تطبق في ظلها، ومن ثم لا يمكن اعتبار تلك التدابير مشروعة إلا إذا كانت ضرورية ومتوافقة مع الظروف المحيطة بها، وخاصة ظروف الزمان والمكان ومتناسبة مع النتيجة التي يتعين على سلطات الشرطة الإدارية السعي إليها من أجل حفظ النظام العام [16].
وفي هذا الصدد يمكن توضيح مدى تغيير التدابير الشرطية مع تغاير الظروف الزمانية والمكانية التي قد تحيط بممارسة الحرية فيما يلي:
أ- الظروف الزمانية:
تختلف تدابير
الشرطة الإدارية في الظروف العادية بحسب ما إذا كانت القيود المفروضة على الحرية مؤقتة أو دائمة فإذا وجد ما يدعو أن يكون التنظيم الشرطي مؤقتا، أمكن لأن ينطوي على أحكام متشددة قضتها ظروف زمنية محددة، أما بالنسبة لتدابير الضبط التي تفرض تنظيمها دائما، فيجب أن تنطوي على أحكام أقل شدة نظرا لما تنطوي عليه من تهديد دائم للحريات، وهو ما يعني أن سلطات الضبط تكون قوية فيما يتعلق بالأنظمة والإجراءات الدائمة، حيث يمكن لهيئات الشرطة الإدارية أن تتخذ الإجراءات الضبطية
المؤقتة ما لا يمكن لها أن تتخذه من إجراءات دائمة.
وينبغي التمييز كذلك بين الأوقات التي تفرض فيها القيود والضوابط، فما يعتبر مشروعا في الليل قد لا يعد كذلك في النهار أو مثال ذلك الإمكانية المخولة لسلطات الشرطة الإدارية في فرض القيود على حريات الأفراد وأنشطتهم في الليل مالا تستطيع أن تفرضه في النهار، كمنع الباعة المتجولين من المناداة ببضائعهم باستعمال مكبرات الصوت أو بأصوات مرتفعة في الليل، ولكنها لا تستطيع اتخاذ نفس الإجراء في النهار، كما أنه من الجائز أن يفتش الأشخاص لو ساروا ليلا حاملين أمتعة، ولا يكون هذا الإجراء مسموحا به أثناء النهار.[17]
ب- الظروف المكانية
تختلف السلطات التي تتوفر عليها هيئات الشرطة الإدارية باختلاف المكان الذي تمارس فيه هذه السلطات حيث إن الإدارة تغدو أقوى ما تكون سلطانا بالنسبة للنشاط الذي يجري في الشوارع والميادين العامة، ولذلك فإن الإدارة تتمتع بسلطة أوسع في تنظيمها، أما بالنسبة للمسكن الخاص، فان الأمر يغدو على عكس ذلك تماما فالنشاط الفردي الذي يقوم به الإنسان في داره لا تستطيع الإدارة أن تقيده بنفس الشدة، فهي مثلا لا تستطيع أن تخضعه الإذن سابق منها، أو تحرم عليه أنواعا منه (طالما هو يعيش في حدود النظام العام والآداب) ومن هنا يقال دائما أن المسكن الخاص لا يدخل في نطاق الضبط الإداري، ولا تنحسر هذه القاعدة إلا عندما يتصل هذا المسكن بالخارج كأن تنبعث منه ضوضاء شديدة تنعكس آثارها على السكينة العامة.
أما الأماكن الخاصة المفتوحة للاستعمال العام كالفنادق والملاهي، فإن التقييد بشأنها لا يرقى إلى درجة ما يجري في الميادين العامة، ولا ينزل إلى درجة المساكن الخاصة، فهي كمكان خاص يوجب على الإدارة عدم تقييد ما يجري فيها من نشاط، لكن فتحها للاستعمال العام يوسع من دائرة سلطات الضبط اتجاهها.
3- أن يكون التدبير متصفا بالعمومية ومحققا للمساواة
إن مبدأ المساواة يعتبر المبدأ الأساسي في كل تنظيم قانوني للحريات العامة والحقوق غير أنه لا يمكن أن يتحقق إلا بقوانين عامة ومجردة تكفل المساواة بين جميع الأفراد.
وعليه فإنه يجب حتى يكون التدبير الضبطي مشروعا أن يتصف بالتجريد في مواجهة الأفراد، إذ أن هذه الصفة هي التي تمنع التمييز بين خالة مشابهة وأخرى مما تدخل في مجال تطبيقه، فالتدبير الضبطي إذن لا يمكن أن يكون إلا تدبيرا عاما ومجردا يشمل كل من تتوافر فيه صفة بعينها لا إلى شخص بعينه، ويواجه كل واقعة تتوافر فيها شروط معينة لا واقعة معينة بذاتها، وهذا العموم لا يتصل فقط بالفرد المكلف بالإجراء بل يمتد ليشمل المكان الذي يجري العمل في نطاقه والمدة التي يتم خلالها أو فيها، فهي عمومية تشمل الأشخاص والزمان والمكان.
ولقد كان مجلس الدولة الفرنسي صارما في تطبيق مبدأ المساواة وخاصة فيما يتعلق بنشاط سلطات الضبط، حيث قضى بأن الأفراد الذين يتواجدون في ذات الظروف يجب أن يعاملوا على قدم المساواة دون ما تفرقة أو محاباة [18]، كما أدان الامتيازات التي لا مبرر لها والتي لا تستند إلى اختلاف في المواقف أو اعتبارات المصلحة العامة، فمن ذلك ما قضى به المجلس من عدم مشروعية الأمر الصادر من محافظة الشرطة بمنح تراخيص بوقوف سيارات الأشخاص معينين دون غيرهم على الطريق العمومي.[19]
وفي القانون المقارن دائما قضت محكمة القضاء الإداري في مصر في أحد أحكامها على أنه "... من الواجب على السلطة الإدارية أن تسوي في المعاملة بين الأفراد متى اتحدت ظروفهم، فيما أعطاها المشرع من اختصاصات في تصريف الشؤون العامة، بحيث يمتنع عليها أن تعطي حقا لأحد تم تحرم غيره منه متى كانت ظروفهم متساوية.[20]
وفي نفس الاتجاه سار القضاء المغربي حيث ألغى قرارا إداريا لتعارضه مع مبدأ المساواة بين الأفراد، وذلك لما رفضت السلطة الإدارية الاستجابة لطلب الطاعن والرامي إلى الحصول على رخصة تمكنه من توضيح ما إذا كانت الأرض التي اشتراها ليست فلاحية ولا قابلة للفلاحة قبل تسجيل الشراء في المحافظة العقارية، بينما أعطت رخصة مماثلة لمشتر آخر اشترى قطعة أرضية مستخرجة من نفس الرسم العقاري، وبذلك تكون قد اشتطت في استعمال سلطتها، وخرقت مبدأ المساواة لما حرمت الطالب من رخصة سبق لها لا أن سلمت رخصة مماثلة له لمشتر آخر.[21]
ويلاحظ بأن المساواة الواجب تحققها في إجراءات الضبط لا يمكن أن تكون مساواة مطلقة بقدر ما هي مساواة نسبية، لذا فإنه لا يشترط أن تطبق المساواة. على كافة أفراد المجتمع بل إن تطبيقها إنما يتم على الأفراد الذين تتوافر فيهم الشروط المحددة قانونا ذلك أن الغاية المراد تحققها من اتخاذ إجراءات الضبط هي المحافظة على النظام العام، ولا يمكن أن تكون تلك الإجراءات مشروعة ما لم يكن الخطر الذين يحدد تلك الغاية عاما أيضا، وبناءا على ذلك فإنه لا يوجد ما يمنع من قيام سلطة الضبط الإداري من إجراء نوع من التمييز أو التفرقة في المعاملة بين الأفراد، وذلك من خلال منح طائفة من الأفراد امتيازا معينا وأن تفرض عليها قيدا خاصا بواسطة أساليب الضبط الإداري، طالما كان الغرض من ذلك هو المحافظة على النظام العام، وأن تلك التفرقة تسري على كافة المتواجدين بذات الموقف والظروف.[22]
وفي هذا الإطار قضى مجلس الدولة الفرنسي بمشروعية تخصيص مرآب السيارات الإسعاف، وسيارات الأجرة وحالات أخرى، وذلك لأنه رأى أن التمييز ليس له ما يبرره في هذه الحالات، وبالتالي لم يكن مبدأ المساواة ليس له ما يبرره في هذه الحالات وبالتالي لم يكن مبدأ المساواة محل أي انتهاك، وعلى عكس ذلك أقر بعدم مشروعية الأمر الصادر عن مدير الشرطة بمنح تراخيص بوقوف سيارات الأشخاص معينين دون غيرهم على الطريق العمومي.[23]
الفقـرة الثانية: ممارسة الشرطة الإدارية في الظروف الاستثنائية
تعتبر نظرية الظروف الاستثنائية من النظريات التي ثار حولها جدل فقهي يتعلق بنشأتها التاريخية، كما تختلف تعريفاتها بين الفقه والتشريع والقضاء والمعاهدات الدولية إلى جانب تداخلها مع مجموعة من المعطيات المتشابهة كحالة الضرورة والسلطة التقديرية ومبدأ المشروعية وأعمال السيادة.
انقسم الفقه في تعريفه لنظرية الظروف الاستثنائية إلى موقفين:
الفريق الأول: يعرف نظرية الاستثناء بالمفهوم الواقعي، أي أنها مجموعة أحداث أو ظروف تستدعي جملة من القوانين والإجراءات غير تلك المؤطرة للظروف العادية وفي هذا الاتجاه عرفها الأستاذ عبد الرؤوف هاشم بيومي على أنها " أحوال تمر بها الدولة وتطبق