آثار إلزامية جواز التلقيح على علاقة الشغل - ذ عدنان بوشان


عدنان بوشان
باحث في القانون الإجتماعي و العلاقات المهنية

 تقديم:

عرف المغرب مؤخرا أحداثا متوالية نتيجة بعض القرارات المتسرعة، التي ترتب عنها في الأخير التنازل عن بعض ما تم إقراره، وإذا كانت فعلا بلادنا لا زالت تحكمها حالة الطوارئ الصحية قانونا، فإنها واقعيا تعمل على تدبير الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي خلفتها حالة الطوارئ، وبالتالي صار من اللازم ضرورة إعادة النظر في المرسوم بقانون الذي يؤطر المسألة، والذي لا زال يغل يد المؤسسة التشريعية، ويفتح الباب على مصراعيه للحكومة، تُسير البلاد بموجب بلاغات ومناشير من السهل اتخاذها لكن تبقى عواقبها قاسية.

وإذا كان للمواطنات والمواطنين حق الحصول على المعلومات[1]، وأنه لا يجوز المس بالسلامة الجسدية أو المعنوية لأي شخص في أي ظرف ومن قبل أي جهة كانت خاصة أو عامة[2]، وأنه لكل شخص الحق في حماية حياته الخاصة، وأن حرية التنقل عبر التراب الوطني والاستقرار فيه، والخروج منه، والعودة إليه مضمونة[3]، وأن حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي مضمونة،[4] فإن حالة الطوارئ التي كانت تفرض الحجر على بعض هذه الحقوق، لم يعد لها محل واقعيا.

وبالتالي صار من اللازم أن يتولى البرلمان مهامه من خلال ممارسته للسلطة التشريعية ومراقبة عمل الحكومة، وأن ترجع الحكومة إلى وضعها العادي من خلال سهرها على ضمان تنفيذ القوانين.

وقد كان لفرض جواز التلقيح آثاره على المقاولة وعلى فئة الأجراء، فالمقاولة ملزمة بأن تفرض على أجرائها التوفر على جواز التلقيح تحث طائلة العقاب، وهي بذلك قد تفقد يدها العاملة بالإضافة إلى ما سبق وأن فقدته من أجراء، أما الأجراء فقد صار البعض منهم مهددا بفقد مناصب شغلهم، جراء عدم اقتناعهم بالتلقيح. 

المحور الأول: الأحكام العامة لجواز التلقيح

تتمثل المهمة الأساسية للمشرع (البرلمان) في تمثيل صوت الشعب من خلال مناقشة قضاياه عبر آلية إصدار القوانين، بما يعبر عن مختلف الآراء، بحيث يجب أن تتضمن القوانين جميع جوانب الاختلاف، فيما تتمثل مهمة السلطة التنفيذية (الحكومة) في ضمان تنفيذ هذه القوانين لأنها تمثل أسمى تعبير عن إرادة الأمة. 

الفقرة الأولى: الإطار القانوني لجواز التلقيح

منذ الإعلان عن حالة الطوارئ أي منذ سنتين أو يزيد، ونحن تحت رحمة سلطة تشريعية حكومية، فهل يمكن القول بأن حالة الطوارئ حين تم الإعلان عنها لا زالت بنفس الحدة والشدة التي هي عليه اليوم، ألا يمكن القول بأننا خرجنا من حالة الطوارئ إلى حالة تدبير الأزمة التي خلفتها هذه الأخيرة، وبالتالي صار من اللازم الرجوع إلى الوضع السليم والواقعي من أجل المشاركة في تدبير هذه الأزمة.

أولا: النصوص القانونية المنظمة لجواز التلقيح

يمكن القول بأن السلطة الحكومية كانت جد متسرعة في الإعلان عن اعتماد جواز التلقيح، وهو ما ولد سخطا ضد هذا القرار لدى بعض المواطنات والمواطنين، نظرا لعدم اقتناعهم لحدود الساعة بجدوى التلقيح وأهميته، لكن السؤال المهم وأمام التصريحات الحكومية المتوالية بعدم إجبارية التلقيح، هو ما هي الأسانيد القانونية التي تبرر اعتماد الجواز أمام غياب أي نص قانوني يوجب اعتماده غير نص البلاغ الحكومي ومرسوم حالة الطوارئ الذي لم يعد ملائما للوضع الراهن.

الغريب في الأمر أن البلاغ الحكومي في حد ذاته لا نتوفر على أي نص منه، بحيث لم يتم نشر هذا البلاغ في المواقع الرسمية ( رئاسة الحكومة، وزارة الصحة، الموقع الخاص بحملة التلقيح ضد الفيروس ...)، ما نجده هو تداول البلاغ من خلال بعض المنابر الإعلامية، مع أن المسألة تهم عموم المغاربة إذ كان من اللازم إعطائهم الحق في تقرير مصيرهم بأيدهم من خلال دولة المؤسسات، عبر المؤسسة التشريعية إلا أننا نجد المسار الديمقراطي يتراجع بشكل كبير في هذه المسألة.

إذا كانت السلطة الحكومية المغربية دائما ما تتخذ من فرنسا قدوة لها في مجموعة من القرارات، فالملاحظ أنها خرجت عن هذا النهج إبان اعتمادها لقرار اعتماد جواز التلقيح، حيث نجد الدولة الفرنسية قد كانت أكثر ديمقراطية وأعطت للشعب حق المشاركة من خلال ممثليه في البرلمان، حيث تم اعتماد الجواز الصحي بفرنسا بموجب قانون مثلت فيه جميع أطياف المجتمع الفرنسي منها المقتنع بالتلقيح ومنها الرافض له.

فإذا كان الدستور المغربي ينص على أن القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة، والجميع أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية متساوون أمامه وملزمون بالامتثال له.

فهو الأمر الذي يقتضي منا التساؤل عن مدى مشروعية القرارات التي تصدر والإعلانات والبلاغات التي لا زالت تؤطر الوضعية القانونية بالمغرب، خاصة أننا لم نعد أمام حالة طوارئ كما كانت عليه الحال حين الإعلان عنها، بل صرنا أمام تدبير أزمة ناتجة عن حالة الطوارئ تقتضي من الجميع المشاركة في تدبير هذه الأزمة.

اليوم لا زلنا نضرب عرض الحائط بكل جرأة مبادئ دستورية كالديمقراطية ودولة الحق والقانون، ومبدأ القانون أسمى تعبير عن إرادة الأمة، والاختيار الديمقراطي، ودستورية القواعد القانونية، مما بات معه من اللازم إعادة الأمور إلى وضعها العادي، من خلال فتح المجال للمؤسسة التشريعية من خلال ممثلي الأمة للمشاركة في تدبير  الشأن العام.

وعليه فإن مرسوم بقانون رقم 2.20.292 الصادر في 23 مارس 2020 يتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها[5]، لم يعد لازما ولا دو فائدة لأنه خاص بوضعية حالة الطوارئ، وليس بالحالة المترتبة عن هذه الوضعية، لأنه كما يلاحظ الجميع فإن أبسط المسائل التي كانت تفرض هذه الحالة قد انتهت، فقد انتهت مسألة الحجر الصحي ومسألة الحجر الليلي، ومنع التنقل في أرجاء المدن أو بينها، وكذلك مسألة وضع الكمامة، وغيرها من الأوضاع التي تغيرت جملة وتفصيلا، مما صار من الواجب إرجاع الأمور إلى المؤسسات المختصة بحيث لا يعقل أن تبقى الحكومة تُسير البلاد بموجب بلاغات، نريد دولة الحق والقانون، دولة المؤسسات، لا دولة البلاغات. 

وبموجبه لم تعد المادة الثالثة من هذا المرسوم مجدية، فمن خلال قراءة نص هذه المادة والتي جاء فيها أنه "على الرغم من جميع الأحكام التشريعية والتنظيمية الجاري بها العمل، تقوم الحكومة، خلال فترة إعلان حالة الطوارئ، باتخاذ جميع التدابير اللازمة التي تقتضيها هذه الحالة، وذلك بموجب مراسيم ومقررات تنظيمية وإدارية، أو بواسطة مناشير وبلاغات، من أجل التدخل الفوري والعاجل للحيلولة دون تفاقم الحالة الوبائية للمرض، وتعبئة جميع الوسائل المتاحة لحماية حياة الأشخاص وضمان سلامتهم."

يمكن لنا أن نسجل مجموعة من المتغيرات على هذا النص أولها أن فترة إعلان حالة الطوارئ لم تعد كما كانت، كما أننا لم نعد نتحدث عن مسألة تفاقم الحالة الوبائية للمرض بقدر ما بات الحديث اليوم يهم النهوض بالاقتصاد وإنعاش التشغيل، وتوفير شروط العودة إلى الحالة الطبيعية، فلماذا يتم تعطيل القانون باعتباره تعبير صريح عن إرادة الأمة وإحلال البلاغات كتعبير إنفرادي للحكومة محله.

ثانيا: تعريف جواز التلقيح

الملاحظ أن السلطة الحكومية المغربية لم تهتم بإعطاء أي تعريف لجواز التلقيح، وما يمكن ملاحظته هو أنها تولت تحديد أنواع هذا الجواز، وذلك تيسيرا وتسهيلا منها كما يبدوا لها ذلك، للمواطن من أجل المبادرة إلى تلقي جرعات التلقيح، فقد ميزت في هذا الإطار بين جواز التلقيح المؤقت وجواز التلقيح النهائي، كما حددت صلاحية كل جواز حسب التاريخ الذي يتلقى فيها المواطن إحدى الجرع (الأولى، الثانية، الثالثة).

على عكس ما نجده في التشريع الفرنسي[6]، الذي تولى تحديد تعريف للجواز كما حصر حالاته، فهو من جهة حدد مصطلحا أكثر واقعية يعبر عن المعنى المراد من الجواز، فإذا كانت السلطة الحكومية المغربية حصرته في "جواز للتلقيح"، بمعنى أنه يهم تلقي جرع التلقيح لا غير، فإن المشرع الفرنسي في مقابل ذلك تحدث عن "الجواز الصحي"، وهو مفهوم أكثر دلالة على الغاية المرجوة منه وهي حماية صحة المواطن وليس مجرد السهر والتسريع من تلقي الجرع لا غير.

فقد اعتبر المشرع الفرنسي أن الجواز الصحي إما أن يكون عبارة عن تصريح رقمي أو تصريح ورقي يهدف إلى إثبات الحالة الصحية للمعني بالأمر وذلك من خلال التوفر على إحدى الوثائق التالية:

-        التوفر على تصريح بالتلقيح شرط استكمال برنامج التلقيح بشكل نهائي؛

-        التوفر على نتيجة سلبية لاختبار ضد فيروس كورونا (RT/PCR) لأقل من 72 ساعة؛

-        التوفر على نتيجة إيجابية تؤكد الشفاء أو التعافي من فيروس كورونا لا تقل عن 11 يوما ولا تتجاوز  6 أشهر[7].

بل الأكثر من ذلك نجد أن المشرع الفرنسي حماية منه لبعض الحالات الخاصة، التي قد يستعصى عليها تلقي جرع التلقيح أو أحدها، لأسباب ترتبط بوضعيتها الصحية، إمكانية الاستعاضة عن الوثائق المشار إليها أعلاه، من خلال إثبات عدم القدرة على تلقي اللقاح لدواعي صحية.  

الفقرة الثانية: نطاق تطبيق جواز التلقيح

لقد حدد البلاغ نطاق تطبيق جواز التلقيح فميز من خلال ذلك بين المؤسسات والأفراد الخاضعة لهذا الجواز، حيث نجد نطاق التطبيق من حيث المؤسسات، إذ تُخضع هذه الأخيرة للولوج إليها لجواز التلقيح جميع الأفراد بغض النظر عن طبيعة علاقتهم بالمؤسسة مسؤولين أم أجراء أم زبائن، وهي كما حددها البلاغ الحكومي تتمثل في كل من المؤسسات الفندقية والسياحية والمطاعم والمقاهي والفضاءات المغلقة والمحلات التجارية وقاعات الرياضة والحمامات.

أما بخصوص نطاق التطبيق من حيث الأشخاص فقد تطرق البلاغ الحكومي، للأفراد الذين يُفرض عليهم التوفر على الجواز، بغض النظر عن طبيعة هذه المؤسسات حتى وإن كانت لا تندرج ضمن المؤسسات المشار إليها أعلاه، بمعنى أن المعيار هنا يرتبط بطبيعة علاقة المؤسسة بالشخص بحيث يجب أن تكون هناك علاقة تبعية. بحيث لا يمكنها أن تفرض جواز تلقيح على زبون ما دامت لا تندرج ضمن المؤسسات المشار إليها أعلاه.

وهنا لابد من التساؤل حول مدى فرض الجواز على عمال وعاملات المنازل، هل يمكن للمشغل أن يفرض على العامل المنزلي الإدلاء بجواز التلقيح، من أجل الولوج إلى مقر  عمله وهو في هذه الحالة منزل المشغل، حتى وإن كان المنزل لا يعتبر مؤسسة بالمفهوم الذي جاء به البلاغ من خلال الأمثلة التي أعطاها، إلا أن توفر عنصر التبعية في هذه الحالة، يخول للمشغل فرض الجواز على العامل المنزلي من أجل الدخول إلى مقر عمله.

 

المحور الثاني: الأحكام الخاصة بجواز التلقيح في مجال الشغل والتشغيل

من الصعب القول بعدم ترتيب قرار فرض الجواز لأي أثر على علاقات الشغل، ذلك أن أول من سيكتوي بنار هذا القرار المقاولة والأجراء قبل أن ينعكس ذلك على الزبون، بل الأكثر من ذلك سيكون الجهاز المكلف بمراقبة تطبيق تشريع الشغل أمام إشكالات عديدة بخصوص هذا الوضع.

الفقرة الأولى: آثار جواز التلقيح على علاقات الشغل

إن فرض جواز التلقيح داخل المقاولة يبقى من ضمن سلط المشغل، فهو من يتحمل المسؤولية عن تطبيق بلاغ الحكومة تحت طائلة العقوبات المقررة قانونا، وبذلك فإن عدم توفر الأجير على الجواز من شأنه أن يضع المشغل في موقف صعب، فهو أمام أحد الخيارين إما التخلي عن الأجير أو تحمل المسؤولية الجنائية عن عدم تطبيق نص البلاغ الحكومي[8].

لقد حدد تشريع الشغل حالات إبرام عقد الشغل محدد المدة كما استقر القضاء على أن هذه الحالات جاءت على سبيل الحصر لا المثال، واعتبر بذلك أن الأصل هو عقد الشغل غير المحدد المدة، وإذا كانت غالبية المقاولات دائما ما تلجأ إلى النوع الأول من العقود نظرا للمرونة التي توفرها، فإن من شأن ذلك أن يخلق التباسا لدى المقاولات حول تطبيق إلزامية توفر الأجير على الجواز ، فإذا كان إنهاء عقد الشغل يتم في الحالات العادية بانتهاء المدة المحددة له، أو بالإرادة المنفردة لأحد طرفيه، فإنه في حالات استثنائية ينتهي بارتكاب الأجير لخطأ جسيم.

وبذلك فهل يعتبر عدم توفر الأجير على جواز التلقيح إنهاء للعقد من طرفه قبل حلول أجله، أم يدخل في إطار الخطأ الجسيم، أم أن الأمر يعد بمثابة قوة قاهرة ينتهي بموجبها العقد، من الصعب الحسم في أحد هذه الفرضيات، إذ يبقى ذلك من اختصاص القضاء، لكن حسبنا إعطاء بعض الملاحظات حول الأمر.

إن أول ما ينبغي الإشارة إليه هو أن جواز التلقيح يؤدي إلى توقف عقد الشغل، في انتظار تسوية الأجير لوضعيته تجاه التلقيح، لأنه يعد في حالة خرق لحالة الطوارئ، وإلى ذلكم الحين يجب على المشغل أن يمنحه أجلا لتلقي الجرعة، مع عدم تعسف الأجير في ذلك فأي غياب غير مبرر لأكثر من أربعة أيام يعد خطأ جسيم، أو تخويله الاستفادة من عطلته السنوية المؤدى عنها، وقد عبر عن ذلك وزير التشغيل حيث أكد على ضرورة منح الأجراء غير المتوفرين على جواز التلقيح تسهيلات من أجل تسوية وضعيتهم اللقاحية، دون أن يثير مسألة رفض الأجير لتلقي هذا اللقاح، وأثر ذلك على عقد شغله، وهو بذلك ترك الأمر للمشغلين باعتبار الأمر صار يدخل ضمن سلطتهم التنظيمية والتأديبية.

وهنا سيصطدم المشغل والأجير، فالأول سيكون مطالبا بتزيل بلاغ الحكومة حول فرض جواز التلقيح، فهو المسؤول عن مدى توفر أجرائه على جواز التلقيح من عدمه داخل مقر العمل، فقد جاء في بلاغ الحكومة أنه "يتعين على المسؤولين في القطاعين العام والخاص الحرص على التنزيل السليم لكل هذه الإجراءات تحت مسؤوليتهم القانونية المباشرة"، والثاني أي الأجير سيتمسك بلا شك بخصوصيته، وحقه في حماية حياته الخاصة داخل العمل أو خارجه، وكذلك حقه في الرأي والتعبير وأنه غير مقتنع البتة بالتلقيح مستندا على الدستور والاتفاقيات الدولية ومدونة الشغل.

وهنا تظهر حسنات التشريع والمؤسسات فالمشرع الفرنسي أصدر نصا قانونيا هو القانون رقم 1040-2021 بتاريخ 05 غشت 2021 يتعلق بتدبير الأزمة الصحية، وضع فيه إجابات عن هذا الإشكال، حيث فرضت على المشغل ضرورة عقد لقاء مع الأجير الرافض من أجل بحث سبل لتسوية الوضعية القانونية، ومن بين الوسائل التي اعتمدها التشريع الفرنسي إمكانية تغيير منصب الأجير إلى منصب آخر لا يكون فيه هذا الأخير في احتكاك مباشر مع الزبناء.

وهو الحل الذي يمكن للمشغل أن يعتمده في إطار سلطته التنظيمية في حالة رغبته الحفاظ على استقرار الشغل داخل المقاولة، خاصة وأن لا الوزارة الوصية ولا المنظمات النقابية في إطار ما يسمى بالتنسيق والحوار، عملت على إصدار أي دليل أو ما شابه من أجل الحفاظ على استقرار الشغل ومعه الحفاظ على المقاولة وضمان السلم الاجتماعي.

أما مسألة اعتبار رفض الأجير تلقي جرع التلقيح خطأ جسيم، يؤدي إلى فصل الأجير، فهي مسألة من السهل الاعتماد عليها في ظل هذه الظروف الصحية، فقد يدعي المشغل أن عدم توفر الأجير على الجواز خطأ جسيم، لأن في ذلك تهديد لزبناء المقاولة ولباقي الأجراء، كما أن في الأمر خرقا لشروط الصحة والسلامة داخل العمل، وإن كان النص القانوني لا يسعف في القول بهذا الرأي، ولا يبقى للأجير  في هذه الحالة سوى اللجوء إلى القضاء.

على خلاف المشرع الفرنسي الذي عمد إلى وضع أحكام خاصة بهذه الحالة، ففي الحالة التي يستعمل فيها المشغل جميع الوسائل القانونية المخولة له من أجل الحفاظ على الأجير، كمنحه أجلا لتسوية وضعه، أو تخويله الاستفادة من عطلته السنوية المؤدى عنها، وعقد لقاء معه من أجل بحث إمكانية تغيير منصبه، فلا يبقى في الأخير للمشغل في حالة تعنت الأجير سوى الحل الأخير، وهو إعمال سلطته التأديبية وفصل الأجير بسبب عدم توفر الأجير على الجواز الصحي.

الفقرة الثانية: سلطة مفتش الشغل في مراقبة جواز التلقيح

يبرز من بين أهم مهام مفتش الشغل زيارات المراقبة التي يقوم بها للمقاولات الخاضعة لمراقبته، حيث غالبا ما يقف على بعض مخالفات التشريع الاجتماعي، فهل يمكن اعتبار جواز التلقيح وثيقة من الوثائق التي يمكن له مراقبتها، وهل يمكن في نفس الوقت أن يواجه من قبل المشغل، وهو في إطار مراقبته بمدى توفره على الجواز من أجل الولوج إلى مقر المقاولة. 

أولا: الجواز وثيقة من وثائق الشغل

لقد حدد التشريع الاجتماعي الوثائق التي يجب على المشغل أن يلتزم بمسكها، والإدلاء بها لجهاز تفتيش الشغل في حالة مطالبته بها[9]، ولا نجد من ضمنها أي شئ عن جواز التلقيح فهو وثيقة مستجدة فرضتها الوضعية الصحية، كما أنها وثيقة يتم مسكها من طرف الأجراء وليس المقاولة، فهل يمكن لمفتش الشغل أن يسأل الأجراء عن مدى توفرهم على جواز التلقيح، ومن لا يتوفر على هذا الجواز من أجل الإقدام على التلقيح.

هي أسئلة عملية لا نجد لها أي تأطير قانوني إذ يصعب على بلاغ أن ينظم ظواهر اقتصادية واجتماعية معقدة، التشريع ذاته ولا يزال يعرف نقائص عديدة، إلا  أنه لابد من توضيح بعض الأمور استجلاء للغموض والإلتباس لدى العديد من الأجراء والمشغلين.

و إذا كان المشغل ومعه الاتحاد العام لمقاولات المغرب قد صرحت بأن التلقيح يدخل في إطار شروط صحة وسلامة الأجراء داخل المقاولة، وأن عدم التزام الأجير  به يعد خطأ جسيم، فالأحرى بذلك أن يُعتبر جواز التلقيح وثيقة للشغل، ما دام أن الأجير يمارس مهامه داخل المقاولة، وأنه مطالب بالجواز بمناسبة ممارسته لهذه المهام، وبالتالي يمكن القول بإمكانية مراقبة مفتش الشغل للجواز، لكن مراقبته هذه تتوقف عند باب المقاولة، لأنه المسؤول عن مراقبة مدى احترام المشغل لشروط الصحة والسلامة داخل المقاولة.

في مقابل ذلك نجد أن السلطة الحكومية المكلفة بالشغل بفرنسا قد أوضحت المسألة من خلال مذكرة المديرية العامة للشغل بتاريخ 01 شتنبر 2021، حيث أكدت على أن مفتشي الشغل غير معنيين بمراقبة الجواز الصحي داخل المقاولات، بل الأكثر من ذلك أنه حتى في حالة وجود نزاع حول رفض الأجير لتلقي جرعات التلقيح أو الإدلاء بالجواز الصحي، فإن مفتشي الشغل غير معنيين بالتدخل لسوية مثل هذه النزاعات وإنما يبقى الأمر من اختصاص القضاء.

ثانيا: الجواز سلطة من سلط المشغل

يعتبر المشغل أو صاحب المشروع هو المسؤول القانوني عن المقاولة، فهو الآمر والناهي طبعا في حدود ما هو مسطر قانونا، وفي حالتنا هذه فهو من أوكل له أمر تنزيل الإجراءات التي يتطلبها جواز التلقيح، سواء أمام المستخدمين التابعين له أم بخصوص الزبناء الذين يتوافدون على المقاولة، وهو ما سيصطدم بطبيعة هذه السلطة فهي إذا كانت تجاه مستخدميه سلطة تنظيمية فأي وصف يمكن أن نصفها به أمام الزبناء، إذ لا يملك في هذه الحالة أي وسيلة تجاه هؤلاء، حتى وإن استعمل سلطته من خلال إشعار السلطات المختصة بهدف التحلل من المسؤولية الملقاة عليه ببعض الخروقات من طرف بعض الزبناء، فإنه بذلك يكون قد أجهز على مشروعه من حيث لا يدري.

ويبقى الإشكال الآخر هو مدى إلزامية تصريح مفتش الشغل بالجواز وهو بصدد دخول المقاولة من أجل مراقبة تطبيق تشريع الشغل، ففي هذه الحالة هل يمكن للمشغل مطالبة مفتش الشغل بجواز التلقيح من أجل الولوج للمقاولة ؟.

من خلال نص البلاغ نجد أن الحكومة فرضت على الموظفين والمستخدمين وكذلك المرتفقين الذين يرغبون في الولوج إلى الإدارات العمومية أو الشبه العمومية أو الخاصة، ضرورة الإدلاء بجواز التلقيح، ونفس الشيء ينطبق على المؤسسات الفندقية والسياحية والمطاعم وغيرها من المؤسسات.

وقد يبدو للوهلة الأولى أنه من الضروري على مفتش الشغل الإدلاء بالجواز للدخول للمقاولة الخاضعة لمراقبته، غير أن الأمر لا يقتضي ذلك، على اعتبار أن المسؤول عن مراقبة مدى توفر مفتش الشغل على الجواز  من عدمه هي الإدارة التي ينتمي إليها، فهي صاحبة الاختصاص في مراقبته وفي عدم إسناد مهمة القيام بالزيارات له في حالة عدم توفره على الجواز، أما أنها وقد سمحت له للقيام بهذه الزيارات فهو بذلك قد استجاب للمقتضيات القانونية التي تحكمه تجاه إدارته، هذا بخصوص ولوجه للمقاولة وهو بصدد القيام بمهامه الرقابية، أما إذا كان دخوله لهذه المقاولة كغيره من الناس فإنه في هذه الحالة ملزم بالإدلاء بالجواز .

وقد سبق للمديرية العامة للشغل بفرنسا أن أصدرت مذكرة، أكدت فيها أن مفتشي الشغل غير ملزمين بتقديم الجواز الصحي للمشغل من أجل الولوج إلى مقرات الشغل بهدف المراقبة.

خلاصة:   

ختاما لا يسعنا سوى التأكيد على ضرورة العمل على وضع نص قانوني، يؤطر الوضعية الراهنة المتمثلة في تدبير الأزمة التي خلفتها حالة الطوارئ الصحية، بما في ذلك تأثيرها على مجال التشغيل والشغل، تفاديا لأي منازعات أو إرهاق للمقاولة واليد العاملة، وكذلك تفاديا لأي زعزعة للسلم الاجتماعي.



[1] - الفصل 27 من الدستور.

[2] - الفصل 22 من الدستور.

[3] - الفصل 24 من الدستور.

[4] - الفصل 29 من الدستور.

[5] - مرسوم بقانون رقم 2.20.292 بتاريخ 23 مارس 2020 يتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها، الجريدة الرسمية عدد 6867 مكرر، بتاريخ 24 مارس 2020، ص 1782.

[6] -Loi n° 2021-1040 du 5 août 2021, relative à la gestion de la crise sanitaire, www.legifrance.gouv.fr/jorf/id/JORFTEXT000043909676,

تم الإطلاع بتاريخ 13/11/2021 على الساعة 22: 14.

 

 

[7]- المادة الأولى من القانون الفرنسي رقم 2021-1040 المتعلق بتدبير الأزمة الصحية.

[8] - حيث تنص المادة الرابعة من مرسوم بقانون على أنه "يعاقب على مخالفة أحكام الفقرة السابقة بالحبس من شهر إلى ثلاث أشهر وبغرامة تتراوح بين 300 و 1300 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين وذلك دون الإخلال بالعقوبات الجنائية الأشد".

[9] - تنص المادة 533 على أنه "يرخص للأعوان المكلفين بتفتيش أن: ب) يطلبوا الإطلاع على جميع الدفاتر والسجلات والوثائق التي أوجب التشريع المتعلق بالشغل مسكها، ليتحققوا من مدى مطابقتها للأحكام القانونية ولهم أن يستنسخوها أو أن يأخذوا ملخصات منها".

إرسال تعليق

أحدث أقدم