مكانة الوسائل البديلة لحل المنازعات في النظام القضائي



الرشدي هشام


مكانة الوسائل البديلة لحل المنازعات في النظام القضائي : 

يشهد العالم اليوم ظاهرة مجتمعية تتجلى في الطرق البديلة لحل او تسوية المنازعات، تطورت إلى جانب الآلية الرسمية و الكلاسيكية  لفض تلك النازعات المتمثلة في القضاء . فإذا كان من غير المعقول تصور الحياة بدون نزاعات، كذلك لا يمكن تصور اي نزاع بدون حل، وعلى هذا الأساس عمل الإنسان منذ الأزل على البحث عن أحسن السبل للفصل في هذه النزاعات مع مراعاة قواعد العدالة والإنصاف، وإذا كانت النزاعات تحل مبدئيا بواسطة السلطة القضائية إلا أن القانون لم يجعل سلوك طريق القضاء إلزاميا على الخصوم للفصل في منازعاتهم، بل أجاز لهم قبل رفع الدعوى أو بعد رفعها أو أثناء السير فيها  اللجوء إلى وسائل أخرى لحل المنازعات، يطلق عليها الوسائل البديلة.
و الحال أن منازعات الأفراد لا تحل دائما بقوة السلطة العامة للدولة (القضاء) وإنما تحل سلميا بوسائل أخرى سواء عن طريق الصلح؛ وهو حل رضائي للنزاع  يقوم به الأفراد بأنفسهم عن طريق تنازلات متبادلة عن بعض حقوقهم. أو بأسلوب الوساطة حيث يتدخل طرف ثالث لتقريب وجهات النظر بين الطرفين . ثم أسلوب ثالث لحل المنازعات لا يقوم على السلطة العامة مثل القضاء كما لا يتم ذاتيا برضاء الطرفين كالصلح، وإنما بنزول أطراف النزاع لرأي طرف ثالث يثقان في رأيه وهذا هو التحكيم  فهو أداة سلمية لا تقوم على حل للنزاع يفرض من أعلى بقوة السلطة العامة وإنما إلى امتثال الأفراد لرأي الغير ولذلك قيل أيضا "احتكم ولا تتقاض". هذا مع الإشارة إلى أن التحكيم  قد تطور خاصة من حيث شكلياته التي صارت أشبه بكثير من المساطر المعمول بها أمام المحاكم الرسمية، التابعة للدولة .
إن الطرق البديلة لحل المنازعات ليست آلية جديدة، وإنما هي قديمة قدم وجود الإنسانية، وكانت موجودة وفعالة. لكن الجديد هو ضرورتها في وقت يحتاج إليها الجميع على مختلف المستويات والمجالات. هذه الضرورة أفرزتها المعضلة التي يواجهها القضاء مند أمد بعيد في مختلف الأنظمة القضائية عبرالعالم، تتجلى في تراكم أعداد مرتفعة من القضايا و ذلك بسبب التأخير في إصدار الأحكام، البطء في الحسم في المنازعات.

وعلى الرغم من ذلك، فقد أدى ازدياد لجوء المتنازعين إلى هذه الوسائل في الفترة الأخيرة إلى عدم جواز تسمية تلك الوسائل بـ "البديلة"، ذلك أن كثرة اللجوء إليها  أدت  إلى تحولها في كثير من الأحيان إلى وسائل أصيلة يلجأ لها الأطراف ابتدءا ، مستفيدين من مزاياها في سرعة حسم النزاع ،والحفاظ على السرية ،وخفض التكاليف في أوضاع كثيرة، إضافة إلى مرونتها من حيث إجراءات حل النزاع والقواعد المطبقة عليه.

وجدير بالذكر أن الوسائل البديلة لحل المنازعات، قد أصبحت من الوسائل الملائمة للفصل في مجموعة هامة من المنازعات، كما هو الشأن في منازعات التجارة الدولية وحماية المستهلك، والمنازعات الناشئة في بيئة الإنترنت، والتجارة الإلكترونية، والملكية الفكرية في العصر الرقمي وغيرها من المنازعات ، حتى أصبح يطلق على هذه الوسائل بالنظر لطابعها العملي " الطرق المناسبة لفض المنازعات".

وقد عرف القدماء في مرحلة ما قبل الدولة (القضاء العرفي أو القبلي أو العشائري) ملجأً لاقتضاء حقوقهم، ومع رسوخ فكرة الدولة واستقرار الأنظمة السياسية جاء القضاء النظامي على قمة سلطات الدولة الوسيلة الرسمية و الحل الأمثل لحسم جميع المنازعات، المدنية منها أو التجارية.
ومع التطور التكنولوجي الهائل لوسائل النقل والاتصالات وتزايد معدلات التجارة الدولية الكبير، أصبح القضاء النظامي مع ما أظهره من عيوب البطء وعدم التخصص لا يتناسب البتة مع حاجة المنازعات التجارية (الوطنية أو الدولية) لسرعة الفصل والتخصص في الموضوعات.
وبين الفينة و الاخرى بدأ التجار والمستثمرون يعودون لنظام القضاء العرفي ولكن بشكل جديد، فيما عرف بـ "الوسائل البديلة لحل المنازعات" ولجأت الدول إلى استخدامها  في أوائل 1970، فكانت أمريكا وبعض الدول الأوربية أول من استخدمها ثم مؤخرا بدأت الدول العربية في استخدامها حتى انتشرت بين الكيانات الاعتبارية العامة والخاصة والأفراد. و بهذا الخصوص لن تفوتنا الإشارة  إلى أن الوسائل  البديلة  لحل المنازعات تجد سندها في تاريخ المغرب  سواء القديم أو الحديث وقبل ظهور القوانين الوضعية  سواء في ظل سريان قواعد الفقه الإسلامي  أومن خلال سريان القواعد العرفية المحلية .
فمما لا شك فيه أن الوسا ئل  البديلة  لحل المنازعات  تحتل مكانة هامة  في الشريعة الإسلامية خاصة ما يتعلق  بالصلح. و ذلك بالنظر إلى  أن  فاعلية هاته الوسائل تقطع المنازعة  وتحد الخصومة  وتؤدي إلى نشر المودة  والوئام بين أفراد  المجتمع.  وفيها إحلال الوفاق محل الشقاق  وقضاء على البغضاء  بين المتنازعين  ولذلك أجمعت  عليها  مصادر التشريع الإسلامي، فهي مشروعة  بالكتاب والسنة  والإجماع. و تشمل  هده البدائل  جميع المنازعات  في كل المجالات بصريح الآيات 35 و128 من سورة النساء  
(    وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّـهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا ﴿35 
 (  .... فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ وَإِن تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّـهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴿128 
هذا فيما يخص  القران الكريم ، اما بالنسبة للسنة النبيوية،  ولما كان الرسول  صلى الله عليه وسلم  شديد الميل إلى  إصلاح ذات البين فقد قال صلى الله عليه وسلم  في هدا الباب : » الصلح جائز بين المسلمين  إلا صلحا  حرم حلالا  أو أحل حراما « وقال  النبي  عليه السلام  أيضا  لأبي أيوب : » ألا أدلك على صدقة يحبها الله ورسوله: تصلح بين الناس إذا  تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا «  ومن بعده عمل به الخلفاء  إد قال  الفاروق عمر : «  ردوا  الخصوم حتى يصطلحوا  فان فصل القضاء يورث بينهم الضغائن « .
وعلى امتداد التاريخ  الإسلامي حافظ الفقهاء في القضاء على الصلح كآلية  لحل الخلافات  والخصومات  وبرعوا في  تقعيد قواعده وحصر حالاته وأركانه  وشروطه  ولا يخلو كتاب في الفقه الإسلامي  من باب خاص بالصلح.
إلا أن أول تنظيم قانوني للتحكيم من طرف المشرع المغربي، كان بمقتضى ظهير المسطرة المدنية -الملغى- الصادر في 12 غشت 1913 والذي خصص له الفصول من 527 إلى 543 ثم جاء قانون المسطرة المدنية الحالي الصادر في 28 شتنبر 1974 واهتم كذلك بالتحكيم، فخصص له الفصول 306 إلى 327.
ولم يهمل المشرع المغربي مؤسسة التحكيم عند إنشائه للمحاكم التجارية، حيث نص في الفقرة الأخيرة من المادة 5 من قانون إحداث هذه المحاكم، على أنه: "يجوز للأطراف الاتفاق على عرض النزاعات المبينة أعلاه (والتي أسند اختصاص البت فيها للمحاكم التجارية) على مسطرة التحكيم وفق أحكام الفصول 306 إلى 327 من قانون المسطرة المدنية".
أما المشرع المغربي الحالي  فقد نظم كلا من التحكيم والوساطة الاتفاقية  بقانون رقم 05-08- وهو  القاضي بنسخ وتعويض الباب الثامن من القسم الخامس من قانون المسطرة المدنية و قد أفرد للتحكيم مجموعتين من القواعد  : الأولى خاصة بالتحكيم الداخلي (الفصل-306 إلى 37-327) . كما خصص الفرع الثاني للتحكيم الدولي (من الفصل 39-327 إلى 54-327) إضافة إلى أنه في مختلف فروع تشريعاته يأخذ بعدة وسائل بديلة لحسم المنازعات، سواء في المدونات الكبرى أو في القوانين الخاصة أو في قوانين الموضوع أو في قوانين الشكل زيادة على القوانين المنظمة لبعض المؤسسات والمهن الحرة. وسيرا على نهج غيره من الدول عمل المغرب على تفعيل دور هذه الوسائل وقد تجلى هذا الاهتمام بصورة فعلية في انتشار مركز التحكيم والتوفيق في عدة مدن مغربية ومبادرة عدة غرف تجارية إلى العمل على إنشاء هذا المراكز .
وعلى المستوى الدولي فالملاحظ هو كون المعاهدات والاتفاقيات الدولية قد اتجهت لتفعيل دور هذه الوسائل على المستوى الدولي، إذ وضعت اتفاقية المؤسسة العربية، لضمان الاستثمار و جعلت الوساطة والتوفيق والصلح وسائل لحسم النزاعات، و يرجع إليها لفض النزاع قبل اللجوء إلى التحكيم، وكذلك فعلت اتفاقية البنك الدولي بشأن تسوية منازعات الاستثمار، إضافة لنظام المصالحة والتحكيم التابع لغرفة التجارة الدولية والذي نص على نظام المصالحة الاختيارية وحدد مجموعة من الإجراءات له.وكذلك نص الأونسترال [لجنة الأمم المتحدة لقانون التجارة الدولية] على قواعد للتوفيق وقد كان لها وقع ايجابي في المنازعات الدولية وكذا أثر في نشر التوفيق كوسيلة لحسم المنازعات الدولية .
و هناك عدة طرق بديلة لتسوية النزاعات وهي تنقسم  إلى أقسام متعددة تختلف تبعا لأساس التقسيـم ، ولعل أفضل تقسيم لها هو تقسيمها من حيث  درجة التدخل الذي يتم  من قبل طرف ثالث في النزاع ، ووفق هذا التقسيم تنقسم هذه الطرق إلى :
-المفاوضات  : أو التفاوض و هو آليـة  لتسوية النزاع قائم على الحوار المباشر بين الطرفين المتنازعين سعياً لحل الخلاف، ولا يحتاج التفاوض إلى أي طرف ثالث، بل يعتمد على الحوار بين الطرفين مباشـرة ،  إلا أنه لا يوجد ما يمنع من تمثيل المتنازعين بواسطة محامين أو وكلاء لهم، إذ لا يغيّر ذلك من طبيعة التفاوض، ما دام الوكلاء يملكون سلطة اتخاذ القرار عن موكليهم
  وتفترض وسيلة التفاوض حسن النية حتى يصبح بالإمكان إيجاد حل للنزاع كما أنها تتصف بأعلى درجات المرونة .
-التقييم الحيادي المبكّر : ويتم التقييم الحيادي المبكر من خلال عرض الأطراف (أو محاميهم) لخلافهم أمام طرف محايد ذي ثقافة قانونية واسعة (محام أو قاضِ سابق) يتمكن من تقييم القضية المعروضة، وبعد أن يلتقي المحايد بالطرفين مجتمعين، يلتقي بكل طرف على حدا  ليستمع منه عن التفاصيل المتعلقة بالوقائع والأحداث محل الخلاف ،  كما يستطيع الأطراف تقديم بياناتهم الخطية أمام المحايد.
  وفي النهاية، يصدر المحايد قراراً يبين من خلاله المراكز القانونية لكل طرف،  ولا يكون رأي المحايد هنا ملزماً للأطراف، إذ لا يجبر أي منهم على الأخذ به.  وفي الغالب، يأخذ المحايد بعد إصدار قراره دور الوسيط، إذ يعمل على محاولة تقريب وجهات النظر بين الطرفين بعد أن بين لهما مراكزهما القانونية، ويطلق على هذه الآلية أيضاً تسمية (التحكيم غير الملزم).
-التوفيق) : الصلح(  لا يختلف أحدٌ في أن عدد القضايا يشهد تزايدا كبيرا ، خاصة مع تزايد أنماط المال والأعمال وتشابكها، لذلك تم ابتكار حلول وبدائل لتسوية النزاعات الناشئة عن هذه القضايا، بحيث تكون هذه التسوية خارج مظلة القضاء، ومن تلك  الحلول   هناك التسوية بالتوفيق والمصالحة.
  هو وسيلة ودية يتم بمقتضاها لجوء أطراف النزاع  باختيارهم إلى شخص أو هيئة محايدة  تتولى تحديد الوقائع  واقتراح أسس لتسوية النزاع  برضاء الأطراف.
فالتوفيق أو الصلح أو ما يسمى بالمصالحة ، هو أحد الوسائل والأساليب البديلة لتسوية المنازعات خارج ساحة القضاء الرسمي  ) قضاء الدولة ( ، بل هو من أهم تلك الوسائل التي أصبح لها مكانة واضحة ، ودورًا بارزًا في حسم المنازعات الناشئة بين أطراف العلاقات والاتفاقات والعقود التجارية ، وهو ما جعل نظام التوفيق يحظى باهتمام كبير في الآونة الأخيرة ، على الرغم من أنه أحد أقدم أساليب حل الخلافات والمنازعات في تاريخ البشرية ، إذ لجأ الناس منذ البدء إلى الصلح في حل خلافاتهم ومنازعاتهم إلى جانب التحكيم قبل ظهور القضاء الرسمي ، وتولي الدولة لمهمة فض المنازعات بين أفرادها.
ومن أبرز خصائص و مميزات  تفعيل خيار تلك  البدائل لتسوية المنازعات   خاصة عن طريق المصالحة والتوفيق  كونها تهدف  إلى تقريب وجهات النظر واحتواء المنازعات بأسلوب التصالح والتراضي مع تعزيز قيم العفو والتسامح بين أفراد المجتمع. هذا إضافة  إلى  تخفيف العبئ على المحاكم وتقليص مدد التقاضي مع وجود الضمانة القانونية والنظامية بحق التقاضي للجميع عند عدم الرغبة ابتداءً في سلوك هذا الخيار، ومع إبقاء حق المتقاضين في طلب اللجوء للقضاء انتهاءً عند عدم الوصول إلى تسوية مرضية للأطراف.
 و عليه  فالتوفيق كطريق بديل لحل وتسوية المنازعات ، هو طريق ودي ، باعتباره وسيلة يستطيع الخصوم من خلالها بأنفسهم أو بمساعدة شخص من الغير ، الاجتماع والتشاور للوصول إلى حل منهي للنزاع يرضى عنه الطرفان؛ فهو اتفاق بين الأطراف على محاولة إجراء تسوية ودية عن طريق الموفق أو الموفقين الذين يقع عليهم اختيار الأطراف ، ويتولى الموفق تحديد مواضع النزاع ، ويقدم مقترحاته التي قد تحظى بقبول الأطراف أو لا تلقى قبولا منهم ، فهو لا يصدر قرارات ، وإنما يقدم مقترحات يظل أمرها معلقًا على قبول الأطراف ، حيث أن الحل الذي يقدمه الموفق للأطراف لا يلزمهم ، فقد يوافقون عليه وقد لا يوافقون ، ويبحثون عن وسيلة بديلة لفض نزاعهم كالالتجاء إلى التحكيم أو إلى القضاء العادي) قضاء الدولة ( ولا تؤثر عملية التوفيق الفاشلة على ما لهم من حقوق .  بمعنى آخر فإن عمل و مهمة من يقوم بالتوفيق بين الخصوم تتحدد  في و تقتصر على تقريب وجهات النظر بين الخصوم واقتراح الحلول المناسبة لهذا النزاع .

وتتمثل عملية التوفيق في اتفاق أطراف النزاع على تسوية نزاعهم عن طريق التوفيق واختيار الموفق الذي ستوكل إليه مهمة حسم النزاع ، كمرحلة أولى  ثم تتوالى بعد ذلك إجراءات التوفيق بواسطة الموفق المختار من الأطراف المتنازعة وفق تقديره الخاص ، متوخيا في ذلك مبادئ العدالة والحياد والإنصاف ، وهي المرحلة الثانية في عملية التوفيق.  وكما هو معلوم ، فإن دور الموفق يقتصر فقط على تقريب وجهات نظر أطراف النزاع، وإبداء وتقديم المقترحات لهم ، بما يكفل توصلهم إلى حلول مرضية لإنهاء نزاعهم وقد يقوم الموفقما لم يكن التوفيق مؤسسيًا ( بتحديد مكان جلسات التوفيق ، ما لم يكن قد تم تحديده من قبل الأطراف في اتفاقهم طبعًا.  ويتعين على أطراف النزاع خلال عملية التوفيق وإجراءاته تزويد الموفق وموافاته بالبيانات والوثائق والمستندات التي تؤيد طلبات كل منهم.
المرحلة الثالثة والأخيرة في عملية التوفيق، هي المرحلة المتمثلة في إنتهاء الموفق من مهمته، والتي لن تخرج عن إحدى حالات ثلاث، إما التوصل إلى اتفاق توفيقي لتسوية النزاع؛ أو فشل الموفق في التوصل إلى حلول ترضي أطراف النزاع؛ أو قيام طرفا النزاع أو أحدهما بإبلاغ الموفق بعدم الرغبة بالاستمرار في إجراءات التوفيق.

-الوساطة :  كأحد الوسائل البديلة لحل المنازعات تأتي الوساطة ، باعتبارها أحد البدائل التي يمكن أن يلجأ إليها أطراف النزاع لحسم منازعاتهم.  فهي تعتبر مرحلة متقدمة من التفاوض تتم على أساس تدخل شخص ثالث محايد في المفاوضات بين طرفين متخاصمين بحيث يعمل هدا المحايد عل تقريب وجهات النظر بين الطرفيـن وتسهيل التواصـل بينهما وبالتالـي مساعدتهما على التوصل لتسوية النزاع القائم بينهما.
  فبينما يتم حل الكثير من الخلافات عبر التفاوض المباشر بين الطرفين  بدون وجود الحاجة لوسيط ، فإن كثيرا من المفاوضات قد تتعثر في مراحل مختلفة، أو أن حدة النزاع لا تسمح بوجود مفاوضات ابتداء بين الأطراف في بعض الأحيان الأمر الذي يحتم الاستعانة بوسيط للمساعدة في دفع عجلة التفاوض إلى الأمام وجسر الهوة بين الطرفين.
 والوساطة عملية طوعية بطبيعتها ولا يجوز للوسيط اتخاذ قرار بات في أساس النزاع، بل إن دوره ينحصر في محاولة تقريب وجهات نظر الطرفين (أو الأطراف) ، وفي طرح الحلول البديلة أمامهم دون فرض أي منها عليهم.
 فالوساطة وإن كانت تشبه إلى حد ما التوفيق، إلا أنها تختلف عنه في بعض الحالات، فالوسيط، يكون عادة شخصا محايدا ويكون له دور أكثر إيجابية في حسم النزاع فهو لا يجمع الأطراف دائما في لقاءات مشتركة كالموفق، ولكنه يعمل في الغالب مترددا بينهم منفردا بكل طرف على حدة لمحاولة التوصل إلى صيغة  مرضية لطرفي النزاع، محاولا إقناع كل طرف بأن التسوية لصالحهوهو ما يعني أن الوساطة تتخذ مجالا أوسع من التوفيق،ذلك لأنها  أكثر عمومية وأكثر مرونة .
و في إطار التمييز بين الوساطة وما يشبهها من وسائل فك النزاعات  فان أهم اختلاف بين الوساطة والتحكيم هو أن الوسيط لا يمكنه فرض رأي على الأطراف وليست لديه سلطة إصدار قرار أو حكم بالتسوية، ويقدم الوسيط بدلاً من ذلك رؤية محايدة عن المنازعة للطرفين ويحاول مساعدة كليهما على التوصل إلى حل ودي، وعلى العكس من ذلك، يقوم نظام التحكيم على منح طرفاً ثالثاً وهو المحكم السلطة لتسوية المنازعة عن طريق حكم ملزم للطرفين.
   فالأطراف  وفق تقنية  الوساطة هم الذين يصنعون النتيجة فوظيفـة الوسيط تقتصر على تيسير التواصل و التفاوض بين الطرفين لا التحكيم بينهم، و ينتج عن ذلك نتيجة هامة من الناحية العملية، تتلخص في قابلية الاتفاقية الناشئة عن الوساطة للتطبيق من الأطراف بشكل تلقائي كونهم هم الذين توصلوا إليها بمحض إرادتهم ولم تفرض عليهم من الخارج.
   ومن الملفت للنظر أن الوساطة تنجح في حل حوالي%75 إلى %90 من الخلافات التي يتفق الأطراف على حلها باستعمال هذه الآلية، فهـي الأساس الـذي يقوم عليـه نظام وسائل تسوية المنازعات في التجارة الدولية ، فهي الوسيلة الأكثر في نصف العقود التجارية الدولية الكبيرة مثل عقود الإنشاءات الدولية.
وهكذا فالوساطة ، على الرغم من أنها لا تنتهي بقرار ملزم إلا أنها تحظى بقبول من قبل كثير من أطراف المنازعات الذين يفضلون حسم منازعاتهم عبر الوسائل الودية ، فيقومون بقبول وسيط محايد على قدر كبير من الخبرة في مجال النزاع ، لحل الخلاف ربما رغبة منهم في استمرار العلاقة فيما بينهم لاحقًا ، خاصة في الحالات المتعلقة بنزاع تجاري
والحقيقة، أن هناك ما يكفي من العوامل التي تشجع على حل الخلافات عبر هذه الوسيلة ، والتي منها  السرعة  وقلة التكاليف و ما تتميز به الوساطة من شفافية و خلوها من تعقيدات على مستوى الإجراءات والدعا وى .

وفي هذا الإطار فقد أصدر المشرع المغربي  قانون رقم 05-08 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية، كما حث المشرع المغربي على الصلح في أكثر من مناسبة بل أوجبه في قانون المسطرة الجنائية الجديد بشأن جرائم معينة، وتم التركيز على مساطر الصلح في مدونة الأسرة ونزاعات الشغل والأمراض المهنية.
والوساطة كغيرها من وسائل تسوية المنازعات لها أيضا قواعدها الخاصة بها .فعلى اعتبا ر أن للوسيط  دور محوري كبير وهام في إتمام عملية الوساطة، يكون من المهم بداية أن يتوافق السلوك المهني لهذا الوسيط المختار من الأطراف أو المعين من الغيرمركز تحكيم على سبيل المثال ( مع قواعد سلوكيات المحكم، فليس لأي شخص القيام بدور الوسيط في أي نزاع إذا كانت له أي مصلحة شخصية كانت أو مالية نتيجة لهذه الوساطة.  كما يفترض في الوسيط أن يكون شخصا ذا مقدرة على الحوار والإقناع وله خبرة كافية في مجال النزاع، وأن يعمل على جمع المعلومات اللازمة عن النزاع والتفاوض مع الأطراف بشأنه، وأن تكون لديه القدرة على تقريب وجهات نظر الأطراف ومساعدتهم على تفهم مواقف ووجهات نظر بعضهم البعض.
إلا انه بالإضافة  شروط الحياد و الاستقلال و الخبرة  فإنه يشترط كذلك في الوسيط بالنظر إلى الدور المنوط به  توافره على خاصية  الإقناع و الحوار. فدور الوسيط يتجلى أساسا في تشجيع الأطراف على تسوية المسائل موضع النزاع بينهما بأي طريقة يراها مناسبة دون أن يكون له أي سلطة لفرض تسوية على الطرفين .  فإذا رأى الوسيط أن أي من مسائل النزاع بين الطرفين لا تحتمل تسوية عن طريق الوساطة فله أن يقترح على الطرفين الإجراءات أو السبل التي يرجح أن تؤدي، إلى تسوية تلك المسائل بأكبر قدر من الفاعلية وأقل قدر من التكاليف وبصورة خاصة، فللوسيط أن يقترح على سبيل المثال ، الأخذ بقرار خبير في أي مسألة من مسائل الخلاف ، أو أن يقدم كل طرف عروضًا أخيرة للتسوية ، فان استحالت التسوية عن طريق الوساطة ، يمكن اللجوء إلى التحكيم على أساس تلك العروض وبحيث تقتصر فيه مهمة المحكم على تحديد العرض المرجح لحل النزاع . و عليه فيمكن حصردور الوسيط  في  تخفيف هوة الاختلاف ، نقل وجهة نظر كل طرف و اقتراحاته إلى الطرف الآخر للوصول إلى التفاوض، إبراز أوجه التسوية و التقليص من أوجه الخلاف، اقتراح الحلول ، وضع مشروع تسوية متكاملة و تشخيص الحاجيات المستقبلية للتعاون بعد فض النزاع بين الأطراف .

إن عملية الوساطة قد تنتهي بتوقيع الطرفين على محضر بالتسوية يشمل كل المسائل موضع النزاع بينهما أو أي مسألة منها .  أو قرار الوسيط بالإنهاء إذا كان من غير الممكن حسب تقديره أن تؤدي مواصلة الوساطة إلى تسوية النزاعأو إنهاءها من قبل أحد الطرفين في أي وقت بعد بدء إجراءات الوساطة وقبل التوقيع على أي اتفاق بشأن تسوية النزاع .

-التحكيم : مما لا شك فيه  أنه ،عند الحديث عن الوسائل البديلة ،  يتبادر التحكيم مباشرة إلى الذهن باعتباره أهم الأنظمة والوسائل البديلة لحل المنازعات، والتجارية منها على وجه الخصوص ، فقد بات التحكيم في الوقت الحاضر الوسيلة الأكثر انتشارا لحسم المنازعـات التجاريـة ويعتبر التحكيم نوعا من القضاء الخاص، فهو وسيلة بديلـة عن قضاء الدولـة يقـوم فيه أطراف النزاع  بمحض إرادتهما الحرة على اللجوء إلى التحكيم لحل ما قد يثـور من خلاف .  ولعل التحكيم قد اكتسب من الشهرة ما يجعله غني عن التعريف والبيان ، ولكننا نرى أنه لا ضير ونحن نتناول الوسائل البديلة أن نتطرق إلى نظام التحكيم بشكل موجز وفي نطاق المفاهيم الأساسية لهذه الآلية من آليات حل المنازعات.
والتحكيم كأداة لتسوية المنازعات ، يتلخص  في إسناد مهمة الفصل في النزاع إلى أفراد عاديين هم المحكمون ، ويجري اختيارهم بواسطة أطراف النزاع ، أو بواسطة جهة أخرى يتفق عليها الأطراف( كمؤسسات التحكيم التي باتت منتشرة بشكل كبير ) ، وذلك انطلاقًا من تخصصهم  الذي قد لا يتوافر لغيرهم ، بما يجعلهم أقدر على فهم مسائل النزاع المعروض عليهم والفصل فيها .

ويمكن تعريف التحكيم بأنه: وسيلة يختارها الأطراف لفض المنازعـات الناشئة بينهم عن طريق طرح النزاع للبث فيه بمقتضى نظام لفض المنازعات ذو طبيعة خاصة ينظمه القانون ،بحيث يترك لأطراف النزاع الحق في الاتفاق على إخراج منازعاتهم الحاّلية والمستقبلية من ولاية قضاء الدولة وطرحها على أشخاص يختارونهم بأنفسهم للفصل في هذه المنازعات بحكم ملزم .
   وعلى خلاف الوساطة والتقييم الحيادي المبكر، يعتبر التحكيم من حيث نتيجته ملزمـاً، بحيث يملك المحكّم أو هيئة التحكيم سلطة اتخاذ القرار في أساس النزاع والبت فيه، وهذا على خلاف الوسيـط الذي لا يملك هـذه السلطة .  كما أن التحكيم متـى اتفـق عليـه (قبل نشوء النزاع أو بعده) يصبـح ملزماً، ويتوجب على الأطراف السير به حتى نهايـة إجراءاته وإصدار القرار المنهي للخصومة من خلاله .  ويعتبـر حكم التحكيـم ملزمـاً ويستوي مع القرار الصادر عن المحكمة إذا ما تم تذييله بالصيغة التنفيذية.
 ويمكن للأطراف الاتفاق على اللجوء للتحكيم عند بدء العلاقة بينهم وقبل حصول نزاع، كأن يوردوا بنداً في عقدهم يشير إلى موافقتهم على إحالة أي خلاف ينشـأ بينهم للتحكيم ( شرط التحكيم) ،  كما يمكن لهـم إبرام اتفاقيـة تحكيم بعد نشوء الخلاف يبينوا فيـها تفاصيـل الخلاف وموافقتهـم على إحالته للتحكـيم (مشارطة التحكيم) ويسمى أحيانـاً (وثيقة التحكيم الخاصة).
  وتمر عملية التحكيم بثلاث مراحل أساسية :المرحلة الأولى ، هي مرحلة اختيار الأطراف بإرادتهم التحكيم لحل منازعاتهم في ساحته وبعيدًا عن ساحة القضاء) اتفاق التحكيم. ( اما المرحلة الثانية هي مرحلة تولية الخصوم لشخص أو أكثر سلطة النظر في نزاعهم والبت فيهاختيار المحكم أو المحكمين .( فيما المرحلة الثالثة والأخيرة هي المرحلة التي يبدأ فيها عمل المحكم وممارسته لاختصاصه بنظر النزاع وحتى إصدار حكمه في النزاعإجراءات التحكيم(، ويكون هذا الحكم ملزمًا لأطراف الخصومة.

أما عن خصائصه فإن التحكيم كنظام لحل المنازعات يتميز عن القضاء العادي بالسرعة وتفادي بطء الإجراءات المعهودة أمام القضاء العادي ،حيث أن بطء الإجراءات وإن كان  محتملا ومقبولا نوعا ما في المعاملات المدنية ،فإنه لا يكون مقبولا في المعاملات التجارية التي هي بطبيعتها مستعجلة لارتباطها بحركة الأموال وتداولها .
و عليه، فإن الأهمية التي اكتسبها التحكيم كنظام لحل المنازعات ، هي التي جعلته يتفوق على نظام التقاضي الرسمي  ) قضاء الدولة(، وهذه الأهمية لم تأت من فراغ، وإنما للمزايا العديدة التي يقدمها نظام التحكيم للمتقاضين في ساحته.
هذا عن مجال التجارة الداخلية  اما عن  مجالات التجارة الدولية  فانه ومع تشابك العلاقات التجارية والاقتصادية في العصر الحديث والتطور الكبير و المتسا رع ، والتنوع الواضح في هذه العلاقات، وانتقال الأموال والاستثمارات الاقتصادية بين دول العالم ، فقد اهتمت التشريعات الحديثة بالتحكيم التجاري الدولي  بجانب  التحكيم التجاري الداخلي كنظام خاص لحل المنازعات التي تنشأ نتيجة لهذه التعاملات .و عليه فقد قامت  أغلبية دول العالم بإصدار  تشريعات تنظم التحكيم وإجراءاته ، حتى بات التحكيم وسيلة أساسية من وجهة نظر قطاع الأعمال، وبخاصة الاستثمار الأجنبي ، لتسوية وفض منازعاته.
 ومن بين الدول التي تبنت التحكيم هناك المغرب، حيث نظم المشرع المغربي التحكيم كنظام بديل لحل المنازعات سواء تعلق الأمر بالتحكيم التجاري الدولي  أ و  التحكيم التجاري الداخلي .
وفي ذات الاتجاه ، وإقرارا بأهمية التحكيم كنظام بديل انضم المغرب وصادق على عدد من الاتفاقيات الدولية الخاصة بالتحكيم؛ وذلك  تشجيعا لانتشار نظام التحكيم في الأوساط التجارية وقطاع الأعمال في المغرب ، و هو فعلا الأمر الذي أدى إلى اعتماد وتبني العديد من  الأطراف  للتحكيم كوسيلة لحل تلك  القضايا والمنازعات التجارية المطروحة  في المغرب ،  بحيث تم اعتماد شرط التحكيم في كثير من  العقود التجارية في الآونة الأخيرة  ، خاصة بعد ظهور التحكيم المؤسساتي في المغرب متمثلا في المراكز الوطنية والجهوية التي تتولى مهمة التحكيم. ونخص بالذكر هنا  المركز الدولي للوساطة والتحكيم بالرباط، اما على المستوى الدولي فان مؤسسات التحكيم  متعددة نذكر منها على سبيل المثال : نظام هيئة التحكيم لغرفة التجارة الدولية ، هيئة التحكيم الأمريكية،  محكمة لندن للتحكيم الدولي وهي اكبرهيئات التحكيم الدولي ، المركز الدولي لفض نزاعات الاستثمار. وعلى المستوى الإقليمي  هناك: مركز  التحكيم التجاري لدول مجلس التعاون الخليجي بالبحرين، مركز القاهرة للتحكيم التجاري الدولي.

 و اقتناعا من الجميع بأهمية الحلول البديلة لتسوية او لحل النزاعات، وضرورة اعتمادها في المغرب    لدورها في إشاعة ثقافة جديدة. خاصة في ظل وجود أرضية قانونية، وتراث عريق من التقاليد والعادات المغربية المتعلقة بالصلح والتوفيق و الوساطة ، وثقافة التسامح والحوار، والتي يمكن اعتمادها وتفعيلها لبعث هذه الآليات بعد تطويرها وإغنائها، فان هذا النهج التصالحي لم يقتصر على المجال القضائى  بل تعداه  يمتد ويشمل  حتى المجال السياسي وما مؤسسة )هيئة الإنصاف والمصالحة ( ذات البعد التصالحي بامتياز إلا خير دليل على تبني الدولة المغربية لذلك النهج التصالحي في جميع الميادين والمجالات ، بحيث يتم الاستعانة بالصلح و الوساطة كبديل لحل النزاعات  بين الدولة والمواطن.
وكذا فان الأخذ بالصلح و الوساطة و التحكيم ليس موقفا أو إجراء معزولا؛ بل هو و بكل تأكيد هو نهج مرسوم وسياسة متبناة و ثقافة راسخة بحيث لا تقتصر على المجال التجاري ولا تكتفي بالنطاق السياسي فقط ،بل تم إقرار الصلح في قانون المسطرة الجنائية الجديدة بشأن جرائم معينة، وثم التركيز على مساطر الصلح في مدونة الأسرة، هذا فضلا عما تضمنته مدونة الشغل وبعض النصوص الخاصة من مقتضيات تتعلق بالتحكيم والصلح . وفي خضم هذا السياق وقع المغرب  في سنة 2004 برتوكول للتعاون مع المنظمة العالمية البحث عن أرضية مشتركة يتعلق بإدخال الوسائل البديلة لحل المنازعات إلى النظام القضائي المغربي. وما  الأخذ بالحلول البديلة لتسوية النزاعات وسن القانون رقم 05- 08 المتعلق بالتحكيم والوساطة الاتفاقية إلا احد مظاهر وتطبيقات  النهج التصالحي الذي تتبناه الدولة .
و مواكبة  لسياسة الإصلاح القضائي  التي تبناها المغرب  فان الأخذ بالطرق  البديلة لحل المنازعات؛ أصبح موضوعا  يحتل مكانته وبقوة  ضمن خطط وبرامج إصلاح العدالة. بل وأصبح يشكل لبنة أساسية في بناء صرح الأنظمة القضائية الحديثة  ليس فقط في المغرب ،بل و في مختلف أرجاء المعمور. وهذا ما يعطي لموضوع الطرق البديلة لحل المنازعات البعد الدولي والعالمي.
وعليه و بالنسبة للمغرب فان الأخذ بالطرق البديلة لحل المنازعات جاء للتأكيد على إرادته القوية للنهوض بقطاع العدل ومواكبة التطورات التي يعيشها العالم المعاصر؛ وعزمه على مواصلة الجهود من أجل تطويره وتفعليه قصد الرفع من مصداقيته وسمعته وتحسين أدائه حتى يرقى إلى مصاف الأجهزة القضائية المتطورة.
ولتحقيق الإصلاح القضائي المنشود، أصبح من الضروري البحث عن كل الوسائل والطرق الكفيلة لترسيخ سيادة القانون والشفافية والنزاهة والإنصاف والسرعة في الإنجاز على مستوى إصدار الأحكام وتنفيذها، مما أصبح معه النظام القضائي المغربي مطالبا بتطوير موارده البشرية وأجهزته ومساطره ليستجيب لمتطلبات العدل ومتطلبات عولمة الاقتصاد وتنافسيته.
في هذا السياق فتحت عدة أوراش من أجل تحديث القضاء المغربي، يستنتج تحليل أهدافها وغايتها أن هناك مشاكل وصعوبات تحد من دوره ورسالته؛ فظاهرة البطء الذي يعرفه سير القضايا، وتعقيد المساطر، والتعسف في استعمال الضمانات وحقوق الدفاع، والتقاضي بسوء نية، وتعدد أوجه الطعن، وارتفاع التكلفة... كلها عوامل ومبررات لم تزدد معه فكرة إدخال أو اعتماد وسائل بديلة لحل المنازعات سوى ترسيخا، وأصبح اللجوء إلى هذه الوسائل البديلة مطلبا ملحا لما تتميز به من مرونة وما تحققه من فعالية.
وموازاة مع المجهودات المبذولة لتحديث القضاء على الصعيد الوطني - لا سيما من خلال تحديث الإدارة القضائية والتعميم التدريجي للمعلوميات وإحداث المحاكم المتخصصة وتوجيه عناية خاصة بالتكوين وإعادة التكوين - فقد تم اعتماد مقاربة جديدة للتعاون الدولي تجعل هذا التعاون في خدمة تحديث القضاء تضمن انفتاح قضائنا على العالم دون أن تمس باستقلاليته.
أصبحت الحاجة إلى اعتماد الوسائل البديلة لتسوية المنازعات، بالنظر  لما تتصف به من مميزات تمكنها من تجاوز مساوئ القضاء العادي وذلك انسجاما وتماشيا  مع انفتاح المغرب على الاقتصاد الحر داخليا و دوليا، بالإضافة إلى كونه يتم موازاة  مع ما ينهجه المغرب من سياسة  الاندماج في النسيج الاقتصادي العالمي ، و إتباع  نموذج النيوليبرالية  بحيث لم تعد هناك دولة في منأى عن تحكم السوق في اقتصادها الوطني، وهو ما يستوجب  رفع الحدود الجمركية وإتمام خوصصة المؤسسات العمومية.
و في عصر العولمة المفرطة، المقرونة بوجوب تلبية متطلبات الأعمال ، و بالأخص تشجيعا لجلب الاستثمار وتحريك الادخار، ومواكبة لتيارات التبادل التجاري، اصبح اللجوء للوسائل البديلة مطلبا لحل النزاعات بالمغرب، وهو التوجه الذي واكبه إبرام العديد من المعاهدات الدولية ذات البعد الثنائي والجهوي والعالمي المنظمة لإجراءات استعمال الآليات البديلة في حل النزاعات. 
فالطرق البديلة وسيلة لتشجيع وحماية الاستثمارات ، فهو يؤكد في نظر المستثمرين الأجانب الحياد اللازم ويوفر الضمانات الضرورية لحماية استثماراتهم ، وذلك على خلاف الوضع بالنسبة للقضاء ، ذلك أن العقود الاستثمارية الدولية غالبًا ما تربط دولة معينة بمستثمر أجنبي لا يثق عادة في قضاء الدولة المتعاقدة أو في قوانينها ، حيث يسهل أن يتأثر القاضي بالدوافع الوطنية التي تخالف مصالح المستثمر ، كما أن القوانين في الدول النامية سهلة التعديل والإلغاء وتتسم بعدم الاستقرار  . 

فنظرا للتحولات التي يشهدها المغرب وتنوع علاقاته التجارية الإقليمية والدولية، ومواكبة منه للتطورات القانونية والاقتصادية وأنماط التجارة العالمية وتعدد الشركاء، فقد بات لزاما عليه الاندماج في المنظومة القانونية العالمية من اجل الحصول على حصص متميزة في السوق العالمية، ليس على مستوى الاستثمار فحسب، بل وحتى على مستوى حصته في السوق من قضايا التحكيم في المنازعات، غير أن هذه الحصة لا يمكن للمغرب الحصول عليها إلا إذا كان لديه محكمين أكفاء ومتمرسين في قضايا التجارة الدولية والتحولات القانونية التي تشهدها يوما عن يوم.
ان نجاح الوسائل البديلة لحل المنازعات، رغم كل ما قيل في حقها ونظرا لحداثة التعامل بها ومعها، يبقى في الغالب الأعم رهينا بمدى الاستعداد الذي يمكن أن تبديه الأطراف المتنازعة في التفاوض والتصالح، وتسوية النزاع، وتنفيذ المقررات المتوصل إليها ومدى استيعابها لجدوى هذه العدالة اللينة، السريعة والفعالة والتي لا تتطلب شكليات مفرطة في الحصول على رضي الأطراف، وإنما المهم هو أن يكون هناك اتفاق على اللجوء لهذه الوسائل من طرف المتنازعين.
كما أن  رهان تطبيق هذه الطرق ونجاح التجربة رهين بتوعية الفاعلين في الحقل القضائي والقانوني ، والمجتمع المدني والمشاركة الإيجابية للإعلام، وتوافق صيغتها مع التقاليد المحلية الخاصة، ومدى تفهم الجهة التشريعية لهذه الثورة القضائية الإيجابية والناجعة، التي تهدف للبحث عن مصالح الأطراف في أسرع وقت وبأقل تكلفة محافظة على الأسرار بذلك نرى أن ركوب قاطرة الوسائل البديلة لحل المنازعات، أصبح مطلبا، إنسانيا، اقتصاديا، واجتماعيا ملحا وممكنا، غايته تلافي تراكم الملفات بمحاكمنا إذا تكاتفت الجهود وتوافرت النوايا الحسنة والإرادات الخالصة  .
ولذلك فإن التحسيس بأهمية الوسائل البديلة لحل المنازعات سيمكن الأفراد والمقاولات من الأخذ بهذه الطرق بصفتها طرق ملائمة لحل عدد كبير من النزاعات وللتحسيس بأهمية هذه الوسائل البديلة من طرف الدولة ومؤسساتها باعتبار هذه الوسائل أصبحت جزءا ومعيارا من معايير جلب الاستثمارات وعنصرا أساسيا في تعزيز و تحسين الاستثمار ببلادنا.
فمن الطبيعي أن تعمل الدول جاهدة لإيجاد إطار ملائم يضمن لهذه الوسائل تطبيقها والاهم الرغبة في اللجوء إليها  لتكون بذلك أداة فاعلة لتحقيق وتثبيت العدالة وصيانة الحقوق. 
 وعليه  فلما كان مشروع الوسائل البديلة لحل المنازعات يندرج في سياق تحديث وإصلاح مؤسسة القضاء بشكل عام، فإن المسؤولية تبقى مشتركة في تفعيله على أرض الواقع عبر ضمان إشراك حقيقي وفعال بالنسبة  لكل الجهات خاصة منها:
- فعاليات المجتمع المدني: وذلك لمالها من دور فعال في هذا المجال، ،واعتمادا على المقتضيات الدستورية الجديدة المتضمنة في دستور المملكة لسنة 2011 ، التي أصبحت منظمات المجتمع المدني تتوفر من خلالها على مكنات جديدة في مجال تدبير المسلسل الاقتصادي والاجتماعي المغربي ، إذ أصبح بإمكانها تقديم عرائض ومذكرات مطلبية ، والتي وبالرغم من قوتها الاقتراحية إلا أنها ستساهم لا محالة في تنوير الطريق أمام مدبري الشأن العام الرسميين في مجال حل النزاعات؛
- الأحزاب السياسية المغربية : وذلك من خلال قيامها بمهامها  التأطيرية  من اجل  فهم حقيقي لماهية  الآليات البديلة لحل النزاعات بالمغرب.
-النقابات المهنية : عبر القيام بتكوينات مباشرة وغير مباشرة للعمال والمهنيين فيما يتعلق بأهداف ونتائج آليات تصريف النزاعات بطريقة سلمية.
- الإعلام السمعي البصري : عبر تجنيد الطاقات المادية والبشرية من اجل التعريف بالوسائل البديلة لحل المنازعات وتحسيس المواطنين بأهمية ومزايا هذه الوسائل وإشهار ذلك بواسطة الجرائد وجميع وسائل الإشهار السمعية والبصرية وذلك من خلال تقديم برامج إذاعية  تلفزية . 
- المدارس والجامعات : عبر إعداد مناهج تربوية وتثقيفية  بالإضافة إلى وجوب   تخصيص برامج تعليمية وعلمية علي جميع المستويات، لإعطاء مفهوم واضح للوسائل البديلة لحل النزاع ومزاياها والغاية منها.
- عقد ندوات وأيام دراسية للتعريف بهذه الوسائل ومناقشة إجراءاتها وإيجابياتها وأهمية الدور الذي تقوم به في حل النزاعات والأثر المترتب عنه، تشارك في هذه الندوات والأيام الدراسية جميع الفعاليات القانونية والحقوقية  والاقتصادية.

إرسال تعليق

أحدث أقدم