الإجراءات الماسة بالحق في الخصوصية في قانون المسطرة الجنائية المغربية -دراسة تحليلية نقدية-

 


بقلم الدكتور مصطفى كلمام - دكتوراه في القانون الخاص باحث في العلوم الجنائية

مـــقدمــة

إن قضية حقوق و حريات الإنسان ليست مشكلة فردية بحثة، بل هي قضية اجتماعية بكل أبعادها، باعتبار أن احترام هذه الحقوق و الحريات هو التزام اجتماعي قانوني لمصلحة المجتمع. فالمجتمع يتأذى من المساس بحقوق الإنسان، ولا سيما إذا كان متهما أو مجنيا عليه. و تعتبر الصلة بين احترام حقوق الإنسان و احترام حقوق المجتمع ذات أهمية قصوى[1].

لقد أدت التغيرات الاقتصادية والعلمية و التكنولوجية و الاجتماعية إلى ظهور أنواع جديدة من العنف و أنماط جديدة من الإجرام تهدد أمن الإنسان و المجتمع معا، وهي ما يجب مواجهتها بالإجراءات القانونية الجنائية بكل حزم. و إن كانت هذه الإجراءات تمس حرية المتهمين والجناة، إلا أنها في ذات الوقت تحمي حقوق المجني عليه. وهذا ما يظهر إلى السطح قضية التوازن المطلوب في إطار الشرعية بين حقوق و حريات الأفراد و أمن المجتمع.

حيث يتكفل التنظيم القانوني بوضع تلك الضوابط في بعض القيود على حرية الفرد من أجل الصالح العام. فالقانون هو الذي يكفل التنسيق بين مصلحة الفرد في أن يحمي حريته و حقوقه و بين مصلحة الجماعة في حماية أمنها و استقرارها. و قد يقضي هذا التنسيق في بعض الأحوال المساس بالحرية الشخصية للفرد أو بحقوقه و حرماته. فيكون هذا المساس في صورة قبض أو حبس احتياطي أو تفتيش شخصه أو مسكنه[2]، وهو ما يعتبر مساسا بحق الفرد في الخصوصية.

إن الحديث عن الخصوصية يجعلنا نفكر في نطاق هذا المفهوم الذي يدخل في إطاره كيان الشخص وكل ما هو مرتبط به بشكل مباشر كالملابس التي يرتديها أو حقيبته، بصفة عامة كل أغراضه التي يحملها معه.

كما يدخل في نطاق خصوصية الفرد السكن الذي يأوي إليه ليخلد فيه إلى الراحة عن ضوضاء الحياة العامة، وليقوم فيه بشأنه الخاص بعيدا عن أعين العموم، بالإضافة إلى ذلك مفهوم الخصوصية يمكن أن يدخل في نطاقها حتى المكالمات والمراسلات التي يجريها الإنسان مع الآخرين.

لذلك ونظرا لأهمية كل هذه العناصر التي تدخل في إطار الخصوصية إرتأينا التطرق إليها في هذا الموضوع مع استحضار المبادئ الكونية لحقوق الإنسان وكذلك الأسس الدستورية التي اتفق عليها المواطن، وانطلاقا من تلك العناصر سنحاول معالجة هذا الموضوع وفق التصميم التالي، حيث سنتطرق للإجراءات الجنائية الماسة بالحياة الخاصة (المطلب الأول)، وسنتطرق في (المطلب الثاني) إلى الإجراءات الماسة بحصانة الشخص وحرمة مسكن

المطلب الأول: الإجراءات الجنائية الخاصة بالأشخاص والماسة بخصوصيته

 

 إن الحق في الحياة الخاصة يعد من أهم حقوق الإنسان في المجتمعات الحديثة لما له من ارتباط وثيق بحرية الفرد، وما يترتب عليه من صون الكرامة واحترام الآدمية وهو ما يتطلب من المشرع الجنائي توفير حماية أكثر لحق الإنسان في الخصوصية.

فموضوع الحق في الخصوصية من المواضيع الهامة لارتباطها الوثيق بحق أصيل من حقوق الإنسان، مما يتوجب إحاطتها بمجموعة من الضمانات القانونية الكفيلة بالمحافظة عليها خاصة من طرف أجهزة العدالة عندما تكون أثناء القيام بجمع المعلومات والمعطيات حول وقوع جريمة ما.

وفي إطار الحديث عن هذه الضمانات القانونية يكون الهدف دائما هو الموازنة ين الفرد في التمتع بخصوصيته وسرية حياته الخاصة وعدم انتهاكها، وفي حق الدولة في الحفاظ على سلامتها الداخلية والخارجية، ومراقبة كل ما من شأنه المساس بالمصلحة العامة المتمثلة في النظام لعام وأمن المجتمع.  و في إطار الحديث عن الإجراءات الجنائية الماسة بالشخص، سنقوم بتقسيم هذا المطلب إلى التفتيش الشخصي ( فقرة أولى)، و في (فقرة ثانية) سنتناول إجراء التنصت على المكالمات.

الفقرة الأولى: التفتيش الشخصي بين ضرورة البحث والتحري ومتطلبات الحياة الخاصة

يمكن القول بأن قانون المسطرة الجنائية المغربي لم ينظم الإجراءات المتعلقة بتفتيش الأشخاص[3]، ولم ينص على قواعد يسمح  فيها القانون القيام بمثل هذه التفتيشات وكذا تحديد الهيئات أو السلطات المخول لها ذلك، والشروط والإجراءات الواجب إتباعها لهذا الغرض[4].

إلا أنه درج الفقه والقضاء[5] في المغرب على القول بجواز اللجوء إلى مثل هذا الإجراء في الحدود التي لا تتعارض مع الحقوق الأساسية للفرد وكرامته والأخلاق الحميدة[6].

هذا الوضع أو المعالجة القانونية لإجراء تفتيش الأشخاص وحدها كفيلة بخلق نوع من التصور في الأذهان يقوم على الربط بين هذا النوع من التفتيشات وعلى المصالح الأمنية، ويدل على إضفاء وظيفة أمنية محضة على الإجراء، مما يساهم بدوره في تفشي نوع من الخلط بين مختلف أنواع التفتيش المسموح بها في مواجهة الأشخاص والأنظمة الجارية عليها ويشجع على التساهل في المبادرة إلى العمليات التي يستلزمها دون اتخاذ الاحتياطات أو التدقيق في مدى قانونية الإجراءات المتخذة من عدمه.

خصوصا إذا علمنا أن هذا التفتيش بجميع مستوياته سيرتبط بشكل وثيق بالسلامة الجسدية للأشخاص المستهدفين وحرمتهم الشخصية وسرية حياتهم الخاصة، وهو ما يفرض المزيد من الاحتياط أو التدقيق في ممارسة الصلاحيات التي تسمح بإجرائها إما في مجال الشرطة القضائية أو في أعمال المراقبة والأمن الوقائي..

إن النظام القانوني لتفتيش الأشخاص عرف تطورا كبيرا في ظل مجموعة من المستجدات التقنية أو الأمنية، فإذا استثنينا الوضع في مجال الشرطة القضائية الذي يتميز بنوع من الثبات والوضوح، بحيث يسهل تطبيق المقتضيات القانونية المتعلقة بتفتيش الأشخاص وتكييفها بشكل صحيح حسب متطلبات سير إجراءات البحث، فإن الأمر على خلاف ذلك في المجال الوقائي أو الأمني، حيث لا تبدو الصورة واضحة بالشكل المطلوب للقيام بهذه الإجراءات بالنجاعة المطلوبة وفي تناغم مع احترام حقوق وحريات الأشخاص المستهدفين[7].

كما يلاحظ أن المشرع الجنائي في المسطرة الجنائية اكتفى بتنظيم التفتيش الجسدي للأشخاص الذين يتم وضعهم تحت الحراسة النظرية وفقا لمقتضيات المادة 81منه، وحفاظا على حرمة المرأة عند التفتيش فالمادة السابق ذكرها تنص على ضرورة القيام بالتفتيش من طرف امرأة ينتدبها ضابط الشرطة القضائية لذلك، ما لم يكن الضابط امرأة[8].

إن إفراد نص خاص للتفتيش الجسدي في قانون المسطرة الجنائية ينم عن الحرص على احترام الدقيق لحريات الأفراد وحقوقهم وورود هذا النص في الباب الخاص بالبحث التمهيدي يعتبر خطوة إيجابية من المشرع لملئ فراغ قانوني في هذا الإطار، مما قد يغل يد ضابط الشرطة القضائية عن القيام بهذا التدبير الماس بالحرية الشخصية وبالحياة الخاصة للأشخاص المعنيين[9].

لكن السؤال المطروح في هذا الإطار هو: هل يحق لضابط الشرطة القضائية القيام بإجراء التفتيش الجسدي بصفة تلقائية في كل مكان وزمان أم أن صلاحية قيامه بهذا الإجراء مرهون بالقيام بإجراء الحراسة النظرية؟

الفقرة الثانية: التنصت على المكالمات و ضمانات الحق في الخصوصية

 

مما لا شك فيه أن دستور 2011 وضع في الفصل 24 استثناء على قاعدة عدم جواز انتهاك الاتصالات الشخصية كيفما كان شكلها وقد ربط الدستور هذا الاستثناء بوجود أمر قضائي وفق الشروط والكيفيات التي ينص عليها القانون، الأمر الذي يعني أن أي انتهاك لحرية الاتصالات الشخصية للمواطنين خارج إطار ما ينص عليه الدستور والقانون ينبغي التعامل معه وفق الأصول الدستورية والقانونية[10].

إلا أن الحديث عن حرمة الحياة الخاصة وحمايتها لا يعني عدم القيام بعمليات التفتيش والتنصت على المكالمات، ذلك أن هذه الأخيرة تعد من أهم  عمليات الضبط الوقائي والاحترازي التي تتخذ إبان فترة التحري والتحقيق الإعدادي، وعدم القيام به قد يؤثر سلبا على ميزان العدالة القضائية[11] وفق قواعد وضوابط الإجراءات التي نادت بها جل الدساتير والقوانين لتحقيق الموازنة بين مصالح وواجبات الأفراد وحقوق الجماعة[12].

هذا وبالرجوع إلى قانون المسطرة الجنائية نجد أن المشرع خص أحكام التقاط المكالمات والاتصالات المنجزة عن بعد في المواد من 108 إلى 116، حيث منع بمقتضى ق.م.ج التقاط المكالمات الهاتفية أو الاتصالات المنجزة بوسائل الاتصال عن بعد وتسجيلها وأخذ نسخ منها أو حجزها، ومن هذه الوسائل البرقيات والفاكس والبريد الإلكتروني والوسائل البريدية عبر الهاتف النقال وغيرها، إلا أنه نظرا لتطور الجريمة أدخل المشرع استثناء على هذا المبدأ إذ اقتضت ضرورة البحث ذلك، وأجاز لقاضي التحقيق أن يأمر كتابة بالتقاط المكالمات المذكورة[13]، وأخذ نسخ عما وقع التنصت بصدده أو حجزه في كافة الجرائم التي التمس منه إجراء تحقيق فيها جنحا كانت أو جنايات ومن دون وساطة في ذلك[14].

كما أن الملاحظ أن القانون لم يقيد قاضي التحقيق بنوع الجريمة ولا بخطورتها، ولذلك فإن قاضي التحقيق يمكنه أن يلجأ إلى هذه المسطرة كلما اقتضت ذلك ضرورة البحث الذي يقوم به كيفما كانت الجريمة التي يحقق فيها وللضرورة مفهوم واسع[15].

وبالتالي أمام  هذه السلطة الواسعة لقاضي التحقيق وعدم تقيده بضرورة تعليل أمره بالقبول أو الرفض تجاه الطلب المتعلق بالقيام بعملية التنصت، فإن المشرع ترك له بذلك سلطة واسعة في الأمر، فهو إن شاء أصدر أمرا بالتنصت وإن شاء رفض إصدار هذا الأمر، فيتعين إذن على المشرع التدخل لحصر سلطات قاضي التحقيق في هذا المجال تفاديا لتعسفه في إطار هذه السلطة بدعوى وجود نص يخول لهم ذلك، ومن ثم أن تمس ممارساتهم لعملية التنصت على أشخاص أبرياء لا علاقة لهم بالجريمة أو حرمان أصحاب حقوق ضحايا الجرائم إذا ما قوبلت طلباتهم بالرفض[16].

هذا، وعلى خلاف قاضي التحقيق الذي أعطى له المشرع حق إصدار الأمر المباشر المكتوب بالتقاط المكالمات الهاتفية وكافة الاتصالات المنجزة بوسائل الاتصال عن بعد وينفذ الأمر مباشرة دون قيد، فإن للوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف صلاحية مقيدة،  فهو ملزم قانونا بتقديم ملتمس للرئيس الأول لمحكمة الاستئناف[17]، ولهذا الأخير وحده حق إصدار الأمر بالتنصت بناء على الملتمس المذكور، وذلك في حدود الجرائم الواردة حصرا في المادة 108 من ق.م.ج والتي تتجلى في كل من جرائم المس بأمن الدولة، الجريمة الإرهابية، جرائم القتل والتسميم، جرائم الاختطاف أو أخذ الرهائن، جرائم تزييف أو تزوير النقود أو سندات القرض العام، جرائم المخدرات أو المؤثرات العقلية، وجرائم الأسلحة والذخيرة والمتفجرات أو الجرائم الماسة بحماية الصحة[18].

ومادام أن التقاط المكالمات والاتصالات عن بعد جاءت بمقتضيات عامة، فهي تتم على جميع جوانب الحياة الشخصية والعائلية والعلائقية للشخص وبشكل مستمر[19]، مما يمس بالحرية الشخصية للفرد ويتناقض مع المواثيق الدولية[20]، وقد تمتد تلك المراقبة إلى حرية التعبير والرأي والالتزامات السياسية والحزبية المشروعة للمواطن والإطلاع على أسرار المهنة، دون أن يكشف أن ذلك الشخص له علاقة بالجرائم موضوع البحث في مفهوم المادة 108 وما بعدها[21].

كما أن الحق في الخصوصية ليس حقا مطلقا وإنما محددا بمقتضيات النظام العام، مؤدى ذلك أنه لا يجوز الخوض في خصوصيات الأفراد عامة إلا إذا وجدت مصلحة أولى بالرعاية، غير أنه لا يجوز التضحية بحقوق الإنسان وحرياته في سبيل فعالية الإجراء الجنائي، فمن مصلحة العدالة وتحقيقا لمصالح الدولة العليا يجب إخضاع مباشرة السلطات العامة لأعمالها في مواجهة الأفراد لشروط دقيقة ومحددة حتى يتم حماية الفرد وحرياته الأساسية[22].

هذا وبتدقيق النصوص الدستورية السابق ذكرها، فالسائد أن الإجراءات الجنائية تنظم بقانون يكفل التنسيق بين مصلحة المجتمع في معاقبة مرتكبي الجرائم ومصلحة الفرد في صيانة حقوقه الأساسية، وبالتالي فإن القانون هو الأداة الوحيدة التي يجوز فيها هذا التنظيم استنادا لحكم  الدستور[23]، وباعتبار أن السلطة التشريعية هي المخاطبة بهذه النصوص الدستورية، ويترتب على ذلك أن المشرع وحده هو المختص بتحديد الجهات القضائية التي تقوم بمباشرة الإجراءات الجنائية إي السبيل الوحيد للرقابة على دستورية النصوص المتعلقة بحقوق وحريات الأفراد في قانون المسطرة الجنائية هو رقابة الامتناع عن تطبيق النص المخالف للدستور، وهذا ما يجري عليه رأي الفقهاء، وبالتالي لا تملك المحكمة إلغاء نص تشريعي مخالف للدستور، بل تمنع تطبيقه فحسب[24].

المطلب الثاني: الإجراءات الجنائية المرتبطة بالأشياء ذات الصلة بالحق في الخصوصية

 

يتضح من خلال الإجراءات الجنائية الموكولة لأجهزة العدالة في سبيل تحقيق ضمانات المحاكمة العادلة،أنها لا تخلوا من إجراءات ماسة بحقوق وحريات الأفراد، بالرغم من كون هاجس المشرع الجنائي أثناء صياغة النص القانوني بالضرورة أن يتمثل في تحقيق التوازن المنشود بين الحقوق والحريات والمصلحة العامة، حيث إن المعطيات الواقعية قد تشهد عدة اختلالات عملية على مستوى تطبيق النص ويظهر ذلك جليا في إجرائي تفتيش المنازل ( الفقرة الأولى و حجز الأشياء ( الفقرة الثانية).

الفقرة الأولى: تفتيش المنازل وضرورات حماية حرمة المسكن

 

إن للمساكن حرمة حرصت الدساتير[25] المتعاقبة على حمايتها بنصوص تؤكد هذا المعنى، كما عززت المسطرة الجنائية هذه الحماية وإن اختلفت أبعادها وحدودها حيث قيدت تفتيش المنازل[26] بشروط سواء أثناء البحث التمهيدي أو التحقيق الإعدادي.

هذا ويعد الهدف من التفتيش هو البحث عن عناصر ودلائل تفيد ضابط الشرطة القضائية في تحرياته، ولا يعتبر من قبيل التفتيش حضور ضابط الشرطة إلى مسكن من اجل اصطحاب شخص إلى مخفر الشرطة، أو قيام شخص بإرادته بتقديم وثائق أو مستندات إلى  الضابط، أو قيام هذا الأخير بإجراء معاينات من خارج المسكن...[27] 

و المشرع المغربي قد حدد الأشخاص الموكول لهم التفتيش، وهؤلاء هم ضباط الشرطة القضائية بجميع أصنافهم والموظفون والأعوان المكلفين ببعض مهام الشرطة القضائية، ويجوز لهؤلاء الاستعانة في ذلك ببعض المساعدين والأعوان.

هذا وإذا كان ق.م.ج.م، قد سمح لهذه السلطات المكلفة بالتحري عن الجرائم بالقيام بتفتيش المنازل إذا دعت الضرورة ذلك خلال مرحلة البحث التمهيدي نظرا لما يمكن أن يأويه المنزل من معالم وأدلة لها علاقة بارتكاب الجريمة، وما يمكن أن يسفر عنه التفتيش والحجز من نتائج مفيدة للوصول إلى الحقيقة، فإن هذا الإجراء قد يمس بالحقوق الفردية للمشتبه فيه لإمكانية الإطلاع على مجموعة من الأسرار والخصوصيات المتعلقة بالشخص موضوع التفتيش لذا فقد أحاطه المشرع المغربي بقواعد وشكليات قانونية لابد من التقيد بها من طرف منفذي إجراء التفتيش[28].

حيث إنه وبالرجوع إلى قانون المسطرة الجنائية[29]، فقد نص المشرع على ضرورة احترام الأوقات التي يخلد فيها الناس إلى الراحة والنوم، حيث ألزم ضابط الشرطة القضائية بعدم الشروع في تفتيش المنازل أو معاينتها قبل الساعة السادسة صباحا وبعد التاسعة ليلا، إلا أن هذه القاعدة ليست مطلقة بل ترد عليها بعض الاستثناءات تسمح بإجراء التفتيش خارج هذا التوقيت وهي:

-   إذا طلب صاحب المنزل إجراء التفتيش خارج الوقت القانوني،

-   أن تسمع نداءات واستغاثة خارج المنزل،

-   إذا كان التفتيش يجرى في محلات يمارس فيها عمل أو نشاط ليلي بصفة معتادة ،

-   إذا تعلق بجريمة إرهابية واقتضت ذلك ضرورة البحث أو حالة الاستعجال القصوى أو إذا كان يخشى اندثار الأدلة.

بالإضافة إلى احترام الوقت القانوني للتفتيش فالمشرع اشترط كذلك ضرورة حضور صاحب المنزل أو من ينوب عنه، وذلك في حالة التلبس حيث أنه إذا كان التفتيش سيجري في منزل المشتبه فيه، ينبغي أن يتم هذا التفتيش بحضور هذا الشخص أو من يمثله، وإذا تعذر ذلك فيجب على ضابط الشرطة القضائية أن يستدعي شاهدين من غير الموظفين الخاضعين لسلطته، أما إذا كان التفتيش سيجرى في منزل غير المشتبه فيه فيجب حضور صاحب المنزل أو من ينوب عنه، وإذا تعذر ذلك يعين ضابط الشرطة القضائية شاهدين من غير الموظفين الخاضعين لسلطته، أما إذا تعلق الأمر بجريمة إرهابية وامتنع الشخص الذي سيجري التفتيش أو الحجز في منزله عن إعطاء موافقته أو تعذر الحصول عليها، فإنه يمكن إجراء عملية التفتيش بإذن كتابي من النيابة العامة بحضور الشخص المعني، وفي حالة امتناعه أو تعذر حضوره فبحضور شخصين من غير مرؤوسي ضابط الشرطة القضائية.

وفي حالة البحث التمهيدي العادي يجب أن يكون رضى صاحب المنزل وذلك على شكل تصريح مكتوب بخط يده فإن كان لا يعرف الكتابة فيشار إلى ذلك في المحضر كما يشار فيه إلى قبوله، وإذا غاب الشخص الذي ستقام عملية التفتيش في المنزل يعين ضابط الشرطة القضائية شاهدين من غير الموظفين الخاضعين لسلطته[30].

الفقرة الثانية: حجز الأشياء بين الحفاظ على الأدلة وعدم المساس بالحق في الخصوصية

 

يلاحظ بأن ق.م.ج.م ،قد ألزم المشرع من خلال قانون المسطرة الجنائية[31]، ضابط الشرطة القضائية بعد الانتقال إلى مكان ارتكاب الجريمة بأن "يحافظ على الأدلة القابلة للاندثار وعلى كل ما يمكن أن يساعد على إظهار الحقيقة وأن يحجز الأسلحة والأدوات التي استعملت في ارتكاب الجريمة أو التي كانت معدة لارتكابها وكذا جميع ما قد يكون ناتجا عن هذه الجريمة".

وعليه يتعين على ضابط الشرطة القضائية جمع كل ما يعثر عليه بمكان الجريمة ولو كان يبدو تافها، كأعقاب السجائر لأنها تتحول إلى دليل إدانة للمتهم أو دليل براءته[32].

إن الهدف من حجز هذه الأشياء يتجلى في قيمتها الإثباتية، فغالبا ما يتم مواجهة المتهم بها وهو ما يساهم في تكوين قناعة القاضي عند البث في تلك القضية، وهذا ما يؤكده التوجه القضائي المغربي  والذي جاء فيه: "وحيث إنه بالنظر لحالة التلبس التي ضبط عليها المتهمين وهما يحوزان مخدر الكيف واعترافهما التمهيدي المفصل بهاته الحيازة وعملية الترويج، واعترافهما التلقائي أمام هيئة المحكمة بحيازة المخدرات التي تم حجزها حتى تبني المحكمة قناعتها الصميمة بمؤاخذة المتهمين من أجل باقي المنسوب للمتهم الأول وبما نسب للمتهم الثاني"[33].

إن حجز الأشياء هو الغاية المستهدفة من إجراء تفتيش الأشخاص أو الأماكن في الحالات التي يبيح فيها القانون إجراء هذا التفتيش، ومن قبيل ما يجري حجزه الأشياء أو الأوراق أو الأسلحة التي تتعلق بالجريمة وكل ما يحتمل أنه استعمل في ارتكاب الجريمة أو نتج عنها أو وقعت عليه وكل ما يفيد في كشف الحقيقة.

كما أنه، يناط هذا الإجراء بالسلطة التي خولها القانون إجراء التفتيش أو ما انتدب من قبلها لإجرائه من ضباط الشرطة القضائية، بيد أن هناك محجوزات تضفي بعض التشريعات عليها نوعا من الحماية الخاصة لما ينطوي عليها ضبطها من مساس بحرية الحياة الخاصة نظرا لما قد تحتوي عليه من معلومات وأسرار تتصف بالخصوصية، من قبيل ذلك المراسلات البريدية والبرقيات وتسجيل المحادثات التلفونية والأحاديث الشخصية[34].

وبالتالي ،فالأصل في الأشياء التي يجوز حجزها أن تكون أشياء مادية يحوزها المتهم نفسه كالسلاح الذي استعمله في ارتكاب الجريمة أو أعده لارتكاب هذه الجريمة، كما قد يرد الحجز على الشيء الذي نتج عن ارتكاب الجريمة وسائر الأشياء التي تساعد على إظهار الحقيقة[35].

هذا ويترتب عن اعتبار الحجز إجراءا تحقيقيا ضرورة أن يكون مستندا إلى نص قانوني يسوغه وهو ما يسمى بشرعية أعمال قاضي التحقيق، وهذا الإجراء وجد منفذه إلى قانون المسطرة الجنائية المغربي من خلال نص الفصل 105، ويفترض هذا المبدأ صدور أمر بإجراء الحجز لمن له الصفة في ذلك، وهو قاضي التحقيق المختص في البحث في الجريمة التي يجري بشأنها التحقيق[36].

وبذلك يكون المشرع المغربي حاول تحقيق توازن بين مصلحتين كلاهما جدير بالحماية، من جهة أولى مصلحة المجتمع اكتشاف حقيقة الجريمة، ومن جهة أخرى مصلحة الأفراد في احترام ممتلكاتهم الخاصة[37].

كما انه من الواجب تحديد الأشياء المراد حجزها، يعني أن تكون صيغة الأمر بإجراء الحجز واضحة الدلالة، على أن إجراءات تشمل أشياء بعينها دون غيرها كما اشترط المشرع في الفقرة 5 من الفصل 105 من ق.م.ج ضرورة أن تكون الأشياء المشمولة بالحجز مفيدة لإبراز الحقيقة، وهذا الشرط الأخير يعتبر عنصرا أساسيا لتحقيق التوازن بين المصلحة العامة المتمثلة في اكتشاف حقيقة الجريمة ونسبتها إلى فاعل معين، وبين المصلحة الخاصة التي نجسدها في هذا المقام حقوق الملكية الخاصة التي تتعرض للتضييق من جراء أعمال الحجز التي قد يقوم بها قاضي التحقيق خلال التحقيق الإعدادي، وفي الأخير لابد على قاضي التحقيق أو السلطة المنتدبة من طرفه أن يقوم بجرد جميع الأشياء والمستندات التي قام بحجزها، وتتضمن قائمة الجرد بيانا مفصلا لطبيعة الشيء أو المستند من حيث ذكر نوعه والخصائص المميزة له، وبيان مالكه وسند تملكه، والحالة التي وجد عليها، وهو ما سيحقق التوفيق بين مصلحة العدالة التي تتطلب الفعالية في إجراءات الحجز من حيث اتخاذ التدابير الكافية لضمان عدم توهين قيمة الأشياء المحجوزة في الإثبات، ومصلحة الفرد المتمثلة في إضفاء طابع الشفافية والدقة على أعمال قاضي التحقيق الرامية إلى الحجز حفاظا على ممتلكات الأشخاص من الضياع والتلف[38].

خــــــاتمـــــة

من المتصور أن يختلف النهج  في التشريعات و الدساتير الحديثة فيما يتعلق بمواضيع النص على ضمانات حقوق الإنسان. فقد ترد النصوص الأساسية الضامنة لحقوق من يتهم بارتكاب جريمة ما، ومن تتخذ قبله إجراءات الكشف عنها في دستور الدولة ذاته ثم ترد تفاصيل ضمانات حقوق الإنسان في التشريع الجنائي. ومن ناحية أخرى قد يفضل المشرع الدستوري أن يلجأ إلى تفصيل هذه الضمانات في الدستور.

إذا كانت قواعد العدالة الجنائية تقتضي معاقبة مرتكب الجريمة فإنها تقتضي كذلك المحافظة على الحقوق الأساسية للمتهم بارتكابها، لذلك فقانون المسطرة الجنائية مطلب في كل دولة حديثة ضرورة بتحقيق توازن بين المصلحة العامة والمتمثلة في حق الدولة لإيقاع العقاب على مخالفي القواعد الجنائية والذي يهدد أمن وسلامة النظام العام ومصلحة الفرد خاصة المتهم التي ترتكز على صون حريته وكرامته وتحقيق محاكمة عادلة.



[1] - محمود شريف بسيوني، عبد العظيم وزير، الإجراءات الجنائية في النظم القانونية العربية و حماية حقوق الإنسان، دار العلم للملايين بيروت، الطبعة الأولى ، ماي 1991، الصفحة 15

[2] - مرجع نفسه الصفحة 45-46

[3]- إلا أنه توجد بعض القوانين أو الأنظمة الخاصة تتعلق ببعض المصالح أو الإدارات العمومية، مثل الظهير الشريف بشأن مصلحة الدرك الملكي الفصل 64، مدونة الجمارك والضرائب غير المباشرة الفقرة 1 من الفصل 38، الظهير الشريف رقم 1.59.003 المؤرخ في 28 أبريل 1961 الخاص بمراقبة الموانئ البحرية والتجارية الفصلان 10 و22 من الظهير المتعلق بالسير والجولان في الطرقات العمومية.

[4] - أحمد آيت الطالب، م.س، ص 331.

[5] - ورد في حكم المجلس الأعلى أنه يحق لضابط الشرطة القضائية استعمال كل الوسائل الفنية التي تساهد على كشف الحقيقة.

[6] - محمود شريف بسيوني،م.س، ص 78.

[7] -  محمود شريف بسيوني، م.ن، ص 332.

[8] - الفقرة 2 من المادة 81 من ق.م.ج.م.

[9] - أحمد آيت الطالب، م.س، ص 350.

[10]- فؤاد بوظيشط، الحماية الجنائية للحق في حرمة الحياة الخاصة، الفرامي للدراسات القانونية والاجتماعية، العد الأول، أكتوبر 2018، ص 243.

[11] -jean claude soyer , droit pénal et procédure pénal 12ém e édition, lgdj 1995, p 96.

[12] - فؤاد بوظيشط، م.س، ص 246.

[13] - م.108 من ق.م.ج.م.

[14] - عبد الواحد العلمي، شرح القانون الجديد المتعلق بالمسطرة الجنائية، ج.2، م.س، ص 72 و73.

[15] - البشير بوحبه، نظرات في القانون المتعلق بالتقاط المكالمات، دراسة مقارنة، المجلة المغربية للاقتصاد والقانون، عدد مزدوج 9 و10 نونبر 2004، ص 177.

[16]- فؤاد بوظيشط، م.س، ص 252.

[17]- لحبيب البيهي، شرح قانون المسطرة الجنائية، ج.1، مطبعة المعارف الجديدة، ط.1، الرباط ،س. 2004، ص 215.

[18]- تجدر الإشارة أن مسودة مشروع قانون المسطرة الجنائية الذي يقضي بتغيير وتتميم قانون المسطرة الجنائية لسنة 2014/11/17 أضافت بعض الجرائم للفقرة التالية من المادة 108 من ق.م.ج  ويتعلق الأمر بالجريمة المنظمة وجريمة غسل الأمال وجريمة الرشوة واستغلال النفوذ والغدر واختلاس أو تبدير المال العام أو الجرائم الماسة بنظم المعالجة الآلية للمعطيات والجرائم ضد الإنسانية والاتجار في البشر.

[19]- عبد السلام شاوش، الوسائل التقنية الحديثة وأثرها على ضمانات المحاكمة العادلة، مجلة المناظرة، العدد 9 يونيو، المغرب 2009، ص131.

[20]- المواد 5 و10 و11 و12 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي اعتمد ونشر على الملأ بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المؤرخ في 10/12/1948، والمواد 2 و3 و8 من الاتفاقية الأروبية لحقوق الإنسان، المادة 17 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، المادة 11 من الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان.

[21]- فؤاد بوظيشط، م.س، ص 255.

[22] - فؤاد بوظيشط، م.س، ص 255.

[23]- ويتجلى ذلك من خلال الفصل 6 ولذي جاء فيه بأن :

"القانون هو أسمى تعبير عن إرادة الأمة. والجميع، أشخاصا ذاتيين أو اعتباريين، بما فيهم السلطات العمومية، متساوون أمامه، وملزمون بالامتثال له. تعمل السلطات العمومية على توفير الظروف التي تمكن من تعميم الطابع الفعلي لحرية المواطنات والمواطنين، والمساواة بينهم، ومن مشاركتهم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.

تعتبر دستورية القواعد القانونية، وتراتبيتها، ووجوب نشرها، مبادئ ملزمة. ليس للقانون أثر رجعي".

[24] - محمود شريف بسيوني، م.س، ص 88.

[25]- ف. 24 من دستور 2011، لكل شخص الحق في حماية حياته الخاصة. لا تنتهك حرمة المنزل. ولا يمكن القيام بأي تفتيش إلا وفق الشروط والإجراءات التي ينص عليها القانون. لا تنتهك سرية الاتصالات الشخصية، كيفما كان شكلها. ولا يمكن الترخيص بالاطلاع على مضمونها أو نشرها، كلا أو بعضا، أو باستعمالها ضد أي كان، إلا بأمر قضائي، ووفق الشروط والكيفيات التي ينص عليها القانون

والمادة 10 من دستور1996: “المنزل لا تنتهك حرمته، ولا تفتيش ولا تحقيق إلا طبق الشروط والإجراءات المنصوص عليها في القانون”.

[26]- للإشارة فالمشرع ضمن ق.م.ج لم يعطي تعريفا للمنزل في حين تم تعريفه بمقتضى المادة 511 من القانون الجنائي وجاء على الشكل التالي: " يعد منزلا مسكونا كل مبنى أو بيت أو مسكن أو خيمة أو مأوى ثابت أو منقول سواء كان مسكونا فعلا أو معدا للسكن، وكذا جميع ملحقاته كالساحات وحظائر الدواجن والخنزير والإسطبل أو أية بناية داخلة في نذاقه مهما كان استعمالها حتى ولو كان لها سياج خاص داخل السياج أو الحائط العام.

[27]-Michel LAURE RASSAT, Manuel de procédure pénal, 1er Edition 2002 ,paris, presse universitaire de France, PUF, p113                                                                                                                                 

[28] - هشام بنعلي، بطلان الإجراءات الجنائية " دراسة تأصيلية نظرية وعملية مقارنة"، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع ،الرباط، س.2017 ، ص 303.

[29] - ف.1، من م. 62 من ق.م.ج.م.

[30] - وذلك طبقا للفقرة الثالثة من المادة 79 من ق.م.ج التي تحيل على المواد 59-60-62-63..

[31] - م. 57 من ق.م.ج.م.

[32] - محمد أحذاف، م.س، ص:439.

[33] - حكم  صدر عن المحكمة الابتدائية بالحسيمة عدد 115 بتاريخ 19/03/2009، ملف جنحي تلبسي، رقم 67/09 ج .

[34] - شريف بسيوني، م.س، ص 81.

[35] - وهذا ما أكدته المادة 57 من ق.م.ج.م: والتي جاء فيها على انه ":

يجب على ضابط الشرطة القضائية الذي أشعر بحالة تلبس بجنحة أو جناية أن يخبر بها النيابة العامة فوراً وأن ينتقل في الحال إلى مكان ارتكابها لإجراء المعاينات المفيدة.

وعليه أن يحافظ على الأدلة القابلة للاندثار وعلى كل ما يمكن أن يساعد على إظهار الحقيقة وأن يحجز الأسلحة والأدوات التي استعملت في ارتكاب الجريمة أو التي كانت معدة لارتكابها وكذا جميع ما قد يكون ناتجا عن هذه الجريمة.

يعرض الأشياء المحجوزة على الأشخاص المشتبه في مشاركتهم في الجناية أو الجنحة قصد التعرف عليها."

[36]- غير أن المشرع ارتأى لاعتبارات عملية الخروج عن هذه القاعدة في الفصلين 59 و61 من ق.م.ج خول لضباط الشرطة القضائية في أحوال التلبس بالجناية وفقا للفصل 58 من نفس القانون حجز الأسلحة والأدوات التي استعملت في ارتكاب الجناية أو التي كانت معدة لارتكابها وكذا جميع ما قد يكون  ترتب عن هذه الجناية أو كان متعلقا بها من أشياء أو أوراق أو مستندات، كما أن الفصل 33 من ق.م.ج بصفة استثنائية أعطى لعمال العمالات والأقاليم صلاحية إجراء الحجز أو إصدار أمر بذلك في الجرائم الماسة بسلامة الدولة الداخلية أو الخارجية عندما يقتضي الاستعجال ذلك على شرط الالتزام بالشروط الواردة في الفصل المشار إليه.

[37]- عبد الواحد الحميوي، م.س، ص 89 و90.

[38] - عبد الواحد الحميوي، م.ن، ص 94.

إرسال تعليق

أحدث أقدم