التحرش والابتزاز الالكتروني: ملاحظات حول التفاعل بين المجرم والضحية






يوسف ربحي: دكتور في الحقوق، باحث مهتم بجرائم تقنية المعلومات الحديثة



مقدمة

أسهمت المزاوجة التاريخية التي حدثت بين تكنولوجيا المعلومات وتكنولوجيا الاتصالات في مجتمع المعلومات في طبع حياة الناس وسلوكاتهم وطرق تفكيرهم بأنماط جديدة استباحت كل حدود العالم.
ولقد أثمرت هذه الفوضى الرقمية التي أتاحتها ثورة تكنولوجيا المعلومات، بزوغ أنماط إجرامية مستحدثة ساهمت بشكل كبير في انتهاك خصوصيات الأفراد من خلال تنامي حدة الاعتداءات ذات الطبيعة الجنسية على الحق في الحياة الخاصة داخل الفضاء الرقمي.
ولعل من أبرز تمظهرات هذه الاعتداءات التي واكبت اختفاء الضوابط الأخلاقية في المجتمع الرقمي، نجد كل من جريمتي الابتزاز الجنسي الإلكتروني، والتحرش الجنسي الإلكتروني.
فقد ساهم الانفتاح الهائل والمفاجئ على هامش الخصوصية التي يتمتع بها الأشخاص الآخرين، من خلال شبكة الأنترنت، وسهولة الوصول إلى الآخرين في أي زمان وأي مكان، من خلال وسائل التواصل الفوري، في حدوث ما يعرف بالصدمة الثقافية لدى مستخدمي هذه الشبكات، وعدم القدرة على إدارة العلاقات مع الآخرين من خلال هذه الوسائل، بشكل صحي[1].
حيث أن المنصات والمنابر الرقمية زاغت عن هدفها الأساس المتمثل في تبادل المعلومات وخلق الصداقات وبناء العلاقات الاجتماعية، وأصبحت مرتعا يعج بممتهني المضايقات والمعاكسة والتحرش والابتزاز الجنسي، مما أفرز لنا ظاهرة جديدة/قديمة أصبحت تعرف بالتحرش الجنسي الإلكتروني والابتزاز الالكتروني، وهي من جرائم تقنية المعلومات الحديثة التي تستهدف الأشخاص وتمس الجنس الأنثوي بصفة خاصة وبكثرة[2].
وبالرجوع إلى التحليل العلمي والموضوعي لهذه الظاهرة الاجرامية المستحدثة يلزمنا بالضرورة تحديد الأشخاص والأطراف المعنيين بصفة مباشرة بجرائم تقنية المعلومات ذات الطبيعة الجنسية، طالما أن الظاهرة الاجرامية تعبر عن وجود نزعات وميولات اجرامية لدى المجرم الذي يعد فاعلا أساسيا في قيام الواقعة الاجرامية وشركائه إن وجدوا وباقي الأطراف الأخرى التي كل منها وبحسب موقعها تحاول مواجهة المجرم بطريقتها الخاصة[3].
وانطلاقا من كون أن جرائم تقنية المعلومات ذات الطبيعة الجنسية تختلف عن الجرائم العادية، من حيث وسيلة وأسلوب ارتكاب الجريمة، فإنها بالمقابل وكغيرها من الجرائم تحتاج إلى طرفين، فاعل أو جاني يتربص بضحاياه على منصات التواصل الاجتماعي في أفق الإيقاع بهم، ومجني عليه/ ضحية قد يساهم من حيث لا يدري في خلق فكرة الجريمة لدى الجاني، بفعل إتاحته للجاني مجموعة من المعطيات الشخصية التي قد تشكل المدخل الرئيسي لاقتراف أفعال جرمية من قبيل التحرش الالكتروني والابتزاز الالكتروني.

المحور الأول: الفاعل في الجريمة


أدى التطور التقني الكبير في تقنية الحاسب الآلي والاستخدام المتزايد لشبكة الأنترنت إلى زيادة كبيرة في استخدام الحاسب الآلي وشبكة الانترنت في ارتكاب جرائم ذات طبيعة جنسية عبر شبكة الانترنت، حيث تتوافر للجاني أساليب حديثة تساعده على ارتكاب أفعاله الإجرامية[4]. وتبرز خطورة الأفعال الجرمية ذات الطبيعة الجنسية في تنوعها، وبالتالي تنوع أنماط الجناة المرتكبين لها، حيث نميز في هذا الصدد بين ثلاثة أصناف من الجناة وهم:

أولا: المتحرشون:

تعد شبكة الانترنت بيئة باثولوجية لانتشار التحرش الجنسي الإلكتروني، وذلك لارتباطها بغياب الهوية التي تعد من أبرز المحفزات على انتشار هذا النوع من التحرش[5].
ومع التطور التكنولوجي تطورت أشكال التحرش لينتقل من المجتمع الواقعي إلى المجتمع الالكتروني، وأصبحت وسائل التواصل الالكترونية أرضا خصبة لما يعرف بظاهرة التحرش الالكتروني، فبعض النساء قد يتعرضن للتحرش عند استخدامهن شبكات التواصل الاجتماعي، فلا تكاد المرأة تستخدم اسمها أو صورتها الحقيقية في صفحتها الشخصية حتى تنتهك خصوصيتها[6].
ويمكن أن نميز بين ثلاثة أنماط من المتحرشين الإلكترونيين:

- النمط الأول: أشخاص يخشون مواجهة الآخر فيتحرشون بأشخاص لا يعرفونهم للبعد عما يخشونه، وينتشر التحرش الالكتروني بكثرة بين الشخصيات المنغلقة التي لا تتمتع بالحريات، لأن التحرش في هذا النمط يجد في أحاديث الانترنت متنفسا له.

- النمط الثاني: يشمل الأشخاص الذين يسعدون بالنصب على الآخرين واستغفالهم، وهذه الشخصيات غير سوية ولها دوافعها التي تتعلق بطبيعتها.

- النمط الثالث: ويشمل أولئك الذي يشعرون بسعادة وينتشون لمجرد تحدثهم بكلمات فيها إيحاءات جنسية على مواقع التواصل الاجتماعي، وقد تزداد رغبتهم في التحرش عندما تقابل أحاديثهم بالرفض أو الإهانة[7].

وبالموازاة مع تنوع أنماط المتحرشين الكترونيا، تتنوع أيضا أنماط التحرش الالكتروني لتشمل:

- النمط الأول: التحرش اللفظي ويتمثل في إرسال الكلمات البذيئة الخادشة للحياء، أو مكالمات صوتية، والتلفظ بكلمات ذات طبيعة جنسية، أو وضع تعليقات ذات إيحاء جنسي، والنكات الجنسية، وطلب ممارسة الجنس الإلكتروني.

- النمط الثاني: التحرش البصري ويتمثل في إرسال الصور والمقاطع الجنسية، والطلب من الضحية الكشف عن أجزاء من جسدها، أو قيام المتحرش بإرسال صور أو فيديو له وهو في أوضاع مخلة بالآداب.

- النمط الثالث: التحرش بالإكراه أو البلطجة، حيث أنه من الممكن أن يحدث التحرش الجنسي من خلال اختراق جهاز الاتصال الخاص بالمرأة والحصول على صور خاصة، ومعلومات شخصية عنها، وإجبارها على الموافقة على اللقاء بالمتحرش، على أرض الواقع، وذلك من خلال الملاحقة، أو التهديد أو الابتزاز، بنشر الصور، أو التشهير عبر وسائل الكترونية مختلفة، أو الملاحقة والتجسس أو التتبع بالتعليقات المسيئة، أو انتحال الشخصية بتزوير البريد الإلكتروني أو انتحال الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي.

هذا وتشير الكثير من الدراسات[8] إلى أن النسوة هن الأكثرية من ضحايا التحرش بالرغم من وجود فئات أخرى مثل الأطفال والمراهقين. وتوجد عدة أنماط للمتحرش بهن جنسيًا عبر شبكة الإنترنت ومن أبرزها:

- النمط الأول: تستجيب فيه الضحية مباشرة كأنها تنتظر من يتحدث معها، وهذه الشخصية لديها نفس سمات من يخشى مواجهة من أمامه، وتريد عمل صداقات وهمية من خلال العالم الافتراضي الذي يوفره الكمبيوتر.

- النمط الثاني: تستجيب فيه الضحية بعد إلحاح، وتبدأ استجابتها بعبارات رفض الحديث مع من أمامها، ويكون مدخل التحدث مع هذا النمط الكلام الجميل الأخلاقي والتأكيد على عدم التجاوز في أي أحاديث.

- النمط الثالث: فيضم كل من تتصرف بطريقة منطقية وسوية وترفض جميع هذه المحاولات بصفة دائمة، مهما كانت درجة الإلحاح.

من جهة أخرى، نجد أن هناك[9] من يصنف المتحرشين إلى قسمين:

+المتحرش الفظ Le harceleur repoussoir، ويمثل النسبة الكبرى من المتحرشين، ويعرف بأنه شخص فظ، يسعى للوصول إلى مبتغاه بطريقة وقحة.

+المتحرش ذو الرتبة Le harceleur au grade، ويكون كثير اللباقة على عكس الصنف الأول، وعادة ما يمهد للتحرش بالتحدث مع الضحية عن ظروف حياته الخاصة وهمومه ومشكلاته، ليتطور سلوكه إلى إشارات وتعليقات وإيماءات جنسية.

ثانيا: المبتزون:


جريمة الابتزاز الإلكتروني[10] من الجرائم الخطرة والمزعجة، والتي تدفع المجرم إلى إظهار وإفشاء ما لا يرغب الضحية بإظهاره أو إفشائه، فهي جريمة تستهدف الناحية النفسية والمعنوية للضحية[11].
ويحصل الابتزاز بقيام الجاني المبتز بالحصول على معلومات تخص المجني عليه إما عن طريق سرقة تلك المعلومات، أو الحصول عليها بعد كسب ثقة المجني عليه، ومن ثم القيام بتهديده بنشر تلك المعلومات، سواء أكانت صور شخصية، أم تسجيلات صوتية، أو ما يتعلق بحياة المجني عليه الخاصة أو بعائلته، عن طريق وسائل التقنية الحديثة بهدف الوصول إلى مبتغاه، باعتبار أن التهديد في جريمة الابتزاز غالبا ما يكون فيه المساس بشخص المجني عليه الذي يتم ابتزازه[12].
ويسعى المبتزون لتحقيق مآرب من خلال ابتزازه للمجني عليه، وقد تكون تلك الدوافع إما:

+دوافع مالية: ويتحقق هذا النوع من الابتزاز بقيام الجاني بتهديد المجني عليه من أجل تسليم نقود له أو أشياء أخرى ذات طابع مادي.

+دوافع غير أخلاقية: ويعتبر الدافع الجنسي السمة الغالبة في جرائم الابتزاز باعتباره أكثر أنواع الابتزاز تحققا عن طريق قيام الجاني بتهديد المجني عليه بفضح أمره، أو إفشاء سر من أسراره أو الإخبار عنه مستغلا ضعفه نتيجة لتهديداته.

+دوافع انتقامية: وقد يكون الدافع لدى الجاني هو الانتقام من المجني عليه عن طريق إلحاق الأذى به وإساءة سمعته بنشر صوره إما عن طريق شبكة الأنترنت أو عن طريق الهواتف المحمولة المزودة بكاميرا، أو عن طريق خدمة (WhatsApp) التي تعتبر من أحدث الطرق في وقتنا الحالي لسرعة انتشارها، أو أن يقوم الجاني بابتزاز المجني عليه إذا كان أنثى، وذلك بمنعها من الزواج لهدف الإضرار بها أو الانتقام منها[13].

هذا، وينقسم الابتزاز الجنسي إلى قسمين: القسم الأول، الابتزاز الجنسي الإلكتروني الافتراضي، ويتحقق عن طريق وسائل الاتصال البعيدة مثل، برامج الاتصال المرئي كتطبيق سكايب Skype أو ميسنجر Messenger أو غيرها من تطبيقات التواصل الاجتماعي، أو المواقع الخاصة التي تعرض طلبات الراغبين بالزواج، أو تلك التي تختص بالبحث عن الوظائف، والمبتز في هذا النوع يعتبر مجرما خفيا يسعى للحصول على معلومات تخص الضحية.
أما القسم الثاني وهو ما يسمى بالابتزاز الجنسي الواقعي، فيقع هذا النوع من الابتزاز بقيام المبتز بالحصول على معلومات من الضحية بعد ارتباطه معه بعلاقة كأن يقوم بالتقاط صور تمس الضحية وهي بصحبته، أو أن يحصل على معلومات أو وثائق سرية، أو مقاطع صوتية، أو مرئية تخصه، أو ربما يصل الأمر إلى حصول المبتز على أرقام ولي أمر الضحية دون علمه، ومن ثم تهديده بفضح أمره إذا لم يستجب لرغباته، ومن ثم تهديده بها بهدف تحقيق رغباته الجنسية، وقد يستخدم المبتز التهديد لنشر ما يمكنه أن يقوم به مباشرة تجاه أي شخص. ومما يدل على وقوع الابتزاز الجنسي أن كثيرا من قضايا الابتزاز التي يتم ضبطها يضبط معها صور للضحية، أو مقاطع مرئية خادشة للحياء، بأن يقوم الجاني بتصوير ضحيته، ومن ثم تهديده بها، ما يترتب عليه أن تصبح إرادة المجني عليه مسلوبة، ومن ثم الانصياع لطلبات الجاني دون أدنى مقاومة منه[14].

ثالثا: المتربصون بالأطفال أو مشتهي الجنس مع الأطفال/ Les Pédophiles

لقد قدم انتشار استعمال شبكة الأنترنت وما تتيحه من إخفاء للهوية فرصة سانحة للمتربصين جنسيا بالأطفال[15]، أو ما يصطلح عليهم بالمولعين جنسيا بالأطفال، بحيث وفر لهم إمكانية استدراج ضحاياهم من الأطفال عبر الوسائل التي تتيحها الشبكة العنكبوتية.
ويستخدم مصطلح مشتهي الجنس مع الأطفال للدلالة على شخص بالغ لديه اضطراب في الشخصية، لاسيما فيما يتعلق بالاعتداء الجنسي على الأطفال[16]، ويستغل مرتكبو جرائم الاستغلال الجنسي للأطفال كل وسيلة ممكنة لاقتراف جرائمهم ضد ضحاياهم الأبرياء، ومن بين أهم الوسائل التي يسخرها هؤلاء في استدراج الأطفال هناك غرف المحادثة على شبكة الأنترنت، وهي غرف تعرف إقبالا كبيرا من طرف القاصرين، وهو الشيء الذي يتم استغلاله من طرف المتربصين بالأطفال للإيقاع بضحاياهم من الصغار واستدراجهم عن طريق تقنية الدردشة عبر الانترنت.
ونظرا لأن المحادثة تتم بين شخصين أو أشخاص لا يرون بعضهم البعض، وإنما باستخدام الحاسب الآلي وشبكة الأنترنت، فإن أطراف هذه المحادثة، وخاصة المحادثة ذات الطابع الجنسي قد تأخذ عمقا نظرا لأنهم يشعرون بأنهم غير مراقبين من المجتمع، وبالتالي لا يقيدهم ذلك المجتمع. ويستغل منحرفو الجنس ذلك في استدراج صغار السن إلى شباكهم والإيقاع بهم، إما لأغراضهم الشخصية الدنيئة أو للاتجار بهم جنسيا[17].
وفي هذا الصدد يمكن التمييز بين ثلاثة أنماط رئيسية من السلوك الجنسي لفئة البيدوفيليين:

الأول، نمط الإغواء: وبمقتضاه يتولد عند الجاني شعور داخلي قوي بضرورة الانسجام العاطفي والمودة مع الطفل، ويستعين الجاني في ذلك بتقديم الهدايا والاهتمام بالطفل، والاستعداد لقضاء فترات طويلة من الزمن مع ضحاياه منهم، استعدادا للاستمالة الجنسية أو ما يتطلبه سلوك الجاني من سوء المعاملة والابتزاز والعنف الجسدي.

الثاني، نمط الانطواء: ويستخدم من قبل المجرمين الذين لديهم تفضيل للأطفال وينقصهم الكثير من المهارات والأساليب المتطلبة لاستمالة الطفل جنسيا، ويعتمد ارتكابه للجريمة على الاتصال الشفوي مع ضحايا غير معروفين له.

الثالث، نمط السادية: ويستخدم من قبل المجرمين الذين يتحقق اشباعهم الجنسي مع الأطفال عند التسبب في الايلام الجسدي، أو المعاناة النفسية للضحية، ويعد هذا النمط من أخطر الأنماط، نظرا لتمادي الجاني إلى حد قد يصل إلى خطف وقتل المجني عليه توصلا لهذا الإشباع[18] .

المحور الثاني: دور المجني عليه في رسم معالم الجريمة

مع استفحال الظاهرة الإجرامية ظهر علم المجني عليه La victimologie كعلم جديد انصب لدراسة موضوع الضحية الذي لطالما كان منعدما لدى المدرسة التقليدية وشبه منعدم لدى المدرسة الوضعية[19].
فبفضل علم المجني عليه اتضحت الصورة قليلا من جديد فيما يخص الظاهرة الإجرامية. لا غبار إذن على أن المجني عليه يعتبر نافذة أخرى سمحت بدون مجال للشك، في إضاءة جوانب مظلمة في الظاهرة الإجرامية، وبالتالي يمكن استيعابها وفق تصور جديد وفهم شامل للمجرم والضحية والجريمة، مما سيمكن لا محالة من طرح بدائل أخرى وحلول من شأنها التصدي للظاهرة الإجرامية من جهة وتطور فلسفة المنع والتجريم وكذا العقاب من جهة أخرى[20].
إن القول بأن علم المجني عليه ساهم وأسهم في تطور فلسفة المنع والعقاب لم يأت صدفة، بل تطلب الأمر البحث الرصين والملاحظة القوية، ولعل أهم الجوانب التي أضاءها علم المجني عليه هو إبراز دور المجني عليه في وقوع الجريمة سواء بخلق فكرتها أو تسهيل ارتكابها، وهو عمل يندرج ضمن صلب انشغالات واهتمامات الباحثين في علم المجني عليه.
إن خلق فكرة الجريمة قديما يختلف عما هو الأمر حاليا، وهو أمر منطقي أفرزه تطور الجريمة، فالاستفزاز مثلا، سواء بالأقوال أو الأفعال أو الحركات المشروعة، يعد سببا يخلق فكرة الجريمة لدى الجاني[21] وحاليا قد يتم خلق فكرة الجريمة بطرق جديدة تعكس التطور التكنولوجي المعاش.
وفي هذا السياق، شكل استخدام التكنولوجيا حدثا هاما في تاريخ البشرية وارتبط بشكل قوي بمختلف مجالات النشاط الإنساني حتى أصبحت أمرا ضروريا يستحيل الاستغناء عنها، غير أنه قد يتم جرد الاختراع التكنولوجي أساسا من عمقه الانتفاعي والإيجابي[22] إلى إلحاق الأذى بالآخرين من خلال عدة أفعال تسمح بذلك على مستوى مواقع التواصل الاجتماعي والتطبيقات الداعمة للاتصال. ففي الوقت الذي كان تبادل الصوت البشري من أعظم المهام التي كان يؤديها الهاتف التقليدي فإن التطور التكنولوجي سمح بتطوير هذه الهواتف وأدوارها، فبالموازاة مع تطور الهواتف المحمولة أصبح بالإمكان تبادل الجميع كمية هائلة من البيانات والصور والأفلام وغيرها من الأمور على مواقع التواصل الاجتماعي.
هذا وقد أصبحنا في زمن "الفايسبوك" نتصارع في منح الآخر جميع المعلومات عنا ترسيخا لثقافة التواصل والانفتاح من جهة، وتأسيسا لفضاء مفعم بالثقة المتبادلة من جهة أخرى[23].
ففي الوقت الذي كان الجاني يترصد المجني عليه، ويجمع حوله المعلومات التي تتقاطر عليه ببطء شديد بعد عناء طويل وترصد دقيق، أصبح المجني عليه يقوم بإهداء الجاني معلومات ذهبية، يتطلب جمعها واستقصاؤها مدة ليست بالهينة، من قبيل الإعلان عن الحالة النفسية للأشخاص على مواقع التواصل الاجتماعي وأيضا من خلال نشر الصور.

أولا: الإفصاح عن الحالة النفسية:

اعتبرت الكثير من الدراسات أن استخدام الهواتف النقالة والقدرة على التبادل الرقمي للمعلومات والخدمات سواء عبر الهاتف المحمول أو الحواسيب الآلية من أبرز الأسس المعرفية التي يقوم عليها مجتمع المعلومات[24]، وبهذا تكون التكنولوجيا والمعلوميات والأنترنت قد ساهمت في توطيد علاقات التواصل بين الأفراد والجماعات، ويعتبر الموقع الاجتماعي "الفايسبوك" مثالا واضحا في ذلك الشأن.
فبفعل حركية ودينامية الموقع الاجتماعي يهدي الشخص أحيانا معلومات بسيطة لكنها خطيرة في نفس الوقت، بسيطة لأنه يعتقد أن لا أحد يكترث، وخطيرة مادام البعض يترصد له ويتربص به. ولئن كانت الهواتف الذكية لا تفارق أيدي الشباب أينما حلوا وارتحلوا، فإن كل خطوة يقومون بها أو معلومة يعرفونها إلا وهم ينشرونها على موقع التواصل الاجتماعي ليشاركوها مع زملائهم[25].
ويعتبر معطى الوحدة أو العزلة[26] (La solitude) خطير جدا وهدية مجانية للجاني ونصيب من المسؤولية في خلق فكرة الجريمة، وعليه يساهم المجني عليه من حيث لا يدري في فسح المجال أمام الجناة لاستغلال الحالة النفسية التي تعصف به جراء عزلته لتكون مدخلا تمهيديا للجريمة والتي تبتدأ بدردشة إلكترونية ظاهرها مساعدة المجني عليه لتخطي الحالة النفسية التي يجتازها، وباطنها اعتداء أو ابتزاز جنسي.

ثانيا: نشر الصور على مواقع التواصل الاجتماعي:

لقد أصبحت الهواتف الذكية تحتوي على العديد من التقنيات المدمجة ومن ذلك الكاميرا الرقمية التي تحظى باهتمام غالبية مستخدمي هذه الهواتف، إذ يمكنهم من توثيق مشاعرهم وبعض اللحظات والتجارب الحياتية التي يمرون بها بصورة عارضة في حياتهم اليومية[27].
هكذا يعتقد المجني عليه أن الأمر عادي جدا، وينسى أن عصرنا يتميز بصراع قوي للبحث عن المعلومة وإيصال المعلومة، ومن ثمة لا يستطيع أن يستوعب التداعيات السلبية لتلك الصور لاحقا، فمثلا قد يتم إعادة تركيب الصور الجانبية المنشورة على الصفحة الرسمية بمواقع التواصل الاجتماعي لينطلق بعد ذلك مسلسل الابتزاز الجنسي عبر التهديد بنشر تلك الصور المفبركة، وعندئذ يستوعب المجني عليه الأخطار التي تتربص به على مستوى مواقع التواصل ومنتديات الدردشة على شبكة الأنترنت من طرف المتربصين، وبالخصوص المهووسين أو المدفوعين بنزوة جنسية[28].
ولسهولة نسخ صورة ووضعها على الانترنت، بات من المحتمل أن يرى كل شخص صورته تجول العالم بأسره عبر شبكة الانترنت، بل ويستطيع الجناة المحترفون بواسطة التكنولوجيا المتطورة إخراج مشاهد إباحية عن طريق صور افتراضية لأشخاص افتراضيين دون مشاركة أي شخص.
إجمالا يمكن القول على أنه إذا كان الفضاء السيبيراني جزء لا يتجزأ من المعيش اليومي للإنسان الحاضر[29]، فإنه في أمس الحاجة ليقظة تهدف إلى ترشيد كيفية التعاطي مع وسائل الاتصال الجديدة وإنضاج شروط وقواعد استعمالها بشكل جيد.

[1] - يوسف ربحي، "النظام القانوني لمكافحة جرائم تقنية المعلومات الحديثة ذات الطبيعة الجنسية والمضمون الإباحي"، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون الخاص، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية فاس، جامعة سيدي محمد بن عبد الله، السنة الجامعية 2019-2020، ص 167.
[2] - لطالما تعرضت المرأة إلى الكثير من الاضطهاد الذي لم يختفي رغم كل التطور والتقدم والمتمثل في القرية الإلكترونية التي لم تعد تختلف عن القرية القديمة من حيث الزمن، حيث أن صورة المرأة مازالت يتاجر بها كل من سولت له نفسه ذلك، وعرض المرأة لم يختلف كثيرا في اضطهاده على شبكة الأنترنت عن سابق الأزمان، حيث أصبحت الحسابات الإلكترونية الخاصة بالمرأة حسابات مباحة لكل مجرم إلكتروني له نزوات عدوانية ضدها سواء كانت مكبوتة أو معلنة
[3] - عليلي عبد الصمد، "الجريمة بين المفهوم القانوني ومدلولاتها في مخيلة الأفراد وثقافتهم"، أطروحة تخرج لنيل شهادة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا، كلية العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، جامعة أبو بكر بلقايد، تلمسان، الجزائر، الموسم الجامعي 2012/2013، ص 231.
[4] -أسامة بن غانم العبيدي "جريمة الاستغلال الجنسي للأطفال عبر شبكة الانترنت -دراسة قانونية مقارنة "، مجلة الشريعة والقانون، العدد الثالث والخمسون يناير 2013، ص 74.
[5]- إيهاب الحضري، "الفضاء البديل، الممارسات السياسية والاجتماعية للشباب العربي على شبكة الانترنيت" مركز الحضارة العربية، الجيزة، 2010، ص. 132.
[6]- استخدم مصطلح التحرش الجنسي لأول مرة على يد الباحثة ماري روي (Mary Roy) في تقرير قدمته لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا عام 1973 عن أشكال مختلفة من قضايا المساواة بين الجنسين. للمزيد حول الموضوع انظر: هناء الرملي "أبطال الانترنيت، كيف تحمي نفسك من البلطجة الالكترونية والتحرش الجنسي عبر الانترنيت" دار أزمنة للنشر والتوزيع، عمان الطبعة الأولى 2015.
غير أن هناك من يرى بأن ظهور مصطلح التحرش الجنسي يرجع إلى عام 1975 على يد ثمان ناشطات نسويات، حيث أنه خلال أحد اجتماعاتهن لتبادل الأفكار حول الكتابة على الملصقات عن المضايقات الجنسية اللاتي يتعرضن لها أثناء العمل، ففي أثناء هذا الاجتماع وردت أمامهم خيارات عديدة لوضعها على الملصقات، مثل التخويف الجنسي، والاكراه الجنسي، والاستغلال الجنسي، ولكن كل هذه العبارات ظهرت لهن غير مناسبة وغير كافية لتوضيح المضايقات المستمرة الظاهرة والخفية اللاتي يتعرضن لها، وفي هذا الاجتماع ظهر مصطلح التحرش الجنسي فوافقن عليه.
هشام عبد الحميد فرج، "التحرش الجنسي وجرائم العرض"، الطبعة الأولى، 2011، مطابع دار الوثائق، ص. 19.
[7] - عبد العاطي عمرو، "التحرش الجنسي من الشارع إلى شبكات التواصل الاجتماعي"، مقال منشور على موقع المنتدى العربي للعلوم الاجتماعية والإنسانية بتاريخ 19 أكتوبر 2016، على الرابط التالي:
https://socio.yoo7.com/t4056-topic .
[8] - هبة عيسوي، "التحرّش الإلكتروني يحاصر الفتيات" المنتدى العربي للعلوم الاجتماعية والإنسانية – 2016.
[9]- Denis Hanot, « Harcèlement au travail de quel droit ? », Edition L’Harmattan, Paris, 2002, P. 21.
[10] - يتجلى الابتزاز الالكتروني في تمظهرين أساسيين:
-ابتزاز يتم عن بعد، وهو الذي يكون من خلال الحاسوب أو الهواتف المحمولة أو وسائل التكنولوجيا والتواصل المعلوماتي المختلفة وهو قيام الجاني باستخدام الفضاء الالكتروني لتنفيذ الجرائم مستغلا الثقة الممنوحة له من الضحية أو مستغلا جهل الآخرين في الاستخدام الصحيح للتكنولوجيا
-ابتزاز إلكتروني يتم عن قرب، وهو أن تستخدم أدوات التكنولوجيا في إيقاع الجريمة، كأن يصور شباب زميلته برضاها أو رغما عنها في أوضاع مخلة داخل مكان العمل وتهديدها وابتزازها، فالوسيلة واحدة لكن طريقة ارتكاب الجريمة تختلف من حيث المكان والأسلوب المتبع.
[11] -Cécile NLEND « La protection du mineur dans le cyberespace » Thèse pour l’obtention du grade de docteur de l’université de Picardie Jules Verne, Faculté de droit et de sciences politiques - Toulouse, 2007, p.214.
[12] -دسوقي محمد سامي:" ثورة المعلومات وانعكاساتها على الواقع العملي" -ندوة "الابتزاز المفهوم الواقع، العلاج" -جامعة الملك سعود، 7 و8 مارس 2011، ص. 199.
[13]- ممدوح رشيد مشرف الرشيد العنزي" الحماية الجنائية للمجني عليه من الابتزاز" المجلة العربية للدراسات الأمنية المجلد 44، العدد 194، الرياض 2017، ص. 202.
[14] - للمزيد حول الموضوع، انظر: عزت محمد فتحي "تفتيش شبكة الانترنت" -المركز القومي للإصدارات القانونية -القاهرة، 2012 ص 163 وما بعدها.
[15]- فاضل أطاع الله، "استغلال الأطفال في المواد الإباحية على شبكة الأنترنيت" مجلة الشرطة، العدد 53 يونيو 2009، ص 18.
[16]- أكمل يوسف السعيد يوسف، "المسؤولية الجنائية لمقدمي المواد الإباحية للأطفال عبر الانترنت"، مجلة البحوث القانونية، كلية الحقوق، جامعة المنصورة، 2011، ص 252.
[17] - أسامة بن غانم العبيدي، مرجع سابق، ص 88-89.
[18]- K.V. LANNING «Agresseurs d’enfants : analyse du comportement des agents de la force publique chargés d'enquêter sur l'exploitation sexuelle d'enfants par des agresseurs sexuels », Quatrième édition, septembre 2001, Centre national pour les enfants disparus et exploités, P25.
[19]- اهتمت المدرسة التقليدية بزعامة الفقيه الإيطالي سيزار بيكار Cesar BECCARIA بالجريمة، وبذلك أهملت الجانب الإنساني في الظاهرة الاجرامية سواء تعلق الأمر منه بالجاني أو المجني عليه، لتلتقط المدرسة الوضعية مع لومبروزو LOMBROSO وفيري FERRI وكاروفالو CAROFALO الاشارة من المدرسة التقليدية الجديدة من خلال تفريد العقاب، وركزت كثيرا على الجاني مما نتج عنه اعتماد التدابير الاحترازية والوقائية الشخصية منها والعينية.
[20]- محمد الحسيني كروط، "المجني عليه في الخصومة -دراسة تحليلية مقارنة على ضوء علم المجني عليه"، الطبعة الأولى، السنة 2011، ص. 30.
[21]- محمد الحسيني كروط، المرجع السابق، ص. 147.
[22]- لم يكن التقدم العلمي والتكنولوجي واستعمال الحاسوب قد أدى إلى الجريمة بل ساهم منذ اللحظة الأولى في الجريمة وما الاستغناء على الكثير من اليد العاملة إلا مثال واضح ساهم بشكل كبير في ارتفاع نسبة البطالة التي تعد سببا من الأسباب التي تؤدي إلى الجريمة.
[23]- بوشعيب أرميل، "الجريمة بين الإحساس والواقع" مجلة الشرطة العدد 1، غشت 2014، ص 3
[24]- طارق عفيفي صادق أحمد، "الجرائم الالكترونية، جرائم الهاتف المحمول دراسة مقارنة بين القانون المصري والإماراتي والنظام السعودي"، الطبعة الأولى 2015، المركز القومي للإصدارات القانونية، ص 14.
[25]- ابراهيم بن لعليد، "المجني عليه في خدمة الجاني: الفايسبوك نموذجا"، المجلة المغربية للقانون الجنائي والعلوم الجنائية، العدد 4-5 2017، ص 306.
[26]- تتيح مواقع وتطبيقات التواصل الاجتماعي ومن بينها فايسبوك وتطبيق واتساب مجموعة من الرموز التعبيرية يصطلح عليها بالأيقونات Les émoticônes أو الإيموجي Emoji، هذه الايقونات منها ما يعبر عن الفرح والحب، ومنها ما يشير إلى الحزن والانزعاج ويرمز إلى الوحدانية، ومنها ما يعبر عن الإرهاق والتعب والحيرة والارتباك وخيبة الأمل.
[27]- طارق عفيفي صادق أحمد، مرجع سابق، ص 23.
[28]- تشويه شخصية الإنسان من خلال نشر صورته يتم في حال تغيير ملامح الإنسان الجسمانية أو الذهنية أو الخلقية بما يخالف حقيقة واقعه، أي أن النشر يتم بعد إدخال تعديلات عليها فيظهر الإنسان في وضع لم يوجد فيه في أي لحظة وتنسب إليه سلوكا لم يصدر عنه، في حين يعتقد من يشاهد الصورة أنها مطابقة للواقع وبحياد تام، فالتصوير اليوم لم يعد يتوقف عند حدود إمكانات آلات التصوير، بل تعداه إلى استخدام الوسائل الفنية والتقنية الحديثة لإضافة تأثيرات أخرى إلى الصورة، وتزييف الواقع وتحريف الحقيقة حتى يصعب معها اكتشاف الصورة غير الحقيقية أو كما يقال: الصورة الملغومة". للمزيد من التفاصيل انظر: جعفر محمود المغربي، حسين شاكر عساف، "المسؤولية المدنية عن الاعتداء على الحق في الصورة بواسطة الهاتف المحمول"، الطبعة الأولى 2010، دار الثقافة للنشر والتوزيع –عمان، ص.91 وما بعدها.
[29]- كوثر كسطيط، "حماية الأطفال على الأنترنت"، مجلة الشرطة، أكتوبر 2015، العدد 11، ص. 14.
أحدث أقدم