ما المقصود بالجهوية المتقدمة او الجهوية الموسعة ؟


تعد الجهوية اليوم من أبرز السمات التي تميز الأنظمة السياسية والإدارية المعاصرة ، وهي شكل جد متطور لنظام اللامركزية ، ووسيلة ديمقراطية مثلى لإشراك الساكنة في تدبير شؤونهم من خلال مؤسسات جهوية ومحلية تحظى بصلاحيات واسعة وإمكانيات بشرية ومادية هامة دون المس بسيادة وكيان الدولة.

فموضوع الجهوية المتقدمة من المواضيع الأكثر أهمية في مسلسل الإصلاح الذي أطلقته السلطات العمومية من أجل تسريع وتيرة التنمية والتغلب على تحديات العولمة، والمجهودات المبذولة في هذا الشأن تندرج في إطار تدعيم مسلسل اللامركزية عبر سن ترسانة قانونية وتنظيمية تمكنها من الحصول على من الموارد والآليات الضرورية التي تمكنها   من تقوية التدبير واتخاذ القرارات المحلية.

   فالرهان على الجهوية اليوم رهان على التنمية الشاملة ، رهان على تحديث البنية المؤسساتية للدولة ، لما ستتيحه الجهوية من تحقيق التقدم والتطور الاقتصادي والاجتماعي لكافة المناطق ، عبر وضع مخططات واستراتيجيات مختلفة وبرامج لمكافحة الاختلالات والفوارق المجالية والاجتماعية.

   ولمعالجة هذا الموضوع وإبراز أهم محاوره نتساءل، كيف يمكن للجهوية التي أصبحت خيارا استراتيجيا لذوي القرار أن تحقق التنمية المندمجة والحكامة الترابية الجيدة؟

الفقرة الأولى : الجهوية المتقدمة؛ التطور و المرتكزات

أولا: تطور الجهوية

إن التحولات التي عرفتها العديد من الأنظمة السياسية والإدارية، وظهور مفاهيم   من قبيل التنمية المندمجة
و الديمقراطية المحلية ، والحكامة الترابية والتدبير التشاركي في أسلوب الإدارة المعاصرة هي عوامل رئيسية ، أدت بصناع القرار السياسي في بلادنا إلى إعادة النظر والتفكير في آليات عمل الإدارة المحلية والجهوية والأسس التي تقوم عليها ، وإعادة تأطيرها لمسايرة المستجدات الداخلية والخارجية في سبيل تحقيق الرفاهية والتطور للمواطنين.

فالتراكمات السياسية والاقتصادية والتحولات التي طبعت بنية المجتمع المغربي خاصة في العقود الأخيرة ، أبرزت الاهتمام ووعي السلطات العمومية بأهمية الجهوية كأسلوب لتدبير الشأن المحلي .

تاريخيا فقد مرت الجهوية بالمغرب بعدة مراحل متعددة ، انطلاقامن خضوعها للتجربة في إطار ظهير 16 يونيو 1971 المتعلق بإحداث المناطق الاقتصادية السبع، ثم الارتقاء بالجهة إلى مستوى الجماعة المحلية بمقتضى دستور 1992 ، ثم تدعيم مركز الجهة أكثر في دستور 1996 ، وأخيرا بصدور القانون رقم 47/96 بتاريخ 20 أبريل 1997 الذي أضفى عليها الشخصية المعنوية ونظم تشكيل وتسيير مجالسها وأيضا مجالات وصاية الدولة عليها.

لكن التجربة الجهوية أفرزت بعض النقائص والإكراهات ، وأبانت عن محدوديتها وذلك راجع لعوامل أساسية تتجلى في طبيعة البناء المؤسساتي للجهات المتسمة بضعف الفعالية وعدم النجاعة، كتداخل الاختصاصات بين الجهة والوحدات اللامركزية الأخرى، وإشكالات أخرى مرتبطة بالجوانب الهيكلية ذات الصلة بالنظام الانتخابي وضعف النخب الجهوية وثقل الوصاية الإدارية وتشعبها والخصاص الكبير في الإمكانيات البشرية والمالية، ومحدودية التقسيم الترابي وعدم مواكبة سياسة عدم التركيز الإداري للجهوية…إلخ

ثانيا: التعريف الجهوية المتقدمة وأهم مرتكزاتها

إن الاختلالات والنقائص التي شابت التجربة الجهوية ، هي التي دفعت بالنظام السياسي في بلادنا إلى الإعلان عن رغبة قوية للإرتقاء بالنظام الجهوي إلى وضع متقدم ، تحظى فيه الجهة بمكانة قانونية متميزة، تستطيع من خلالها القيام بالأدوار التنموية المناطة بها، الأمر الذي يجعلها قائمة الذات ويجعل من اللامركزية الجهوية المغربية حقيقة حاسمة وواقعا ملموسا.

ويمكن تعريف الجهوية المتقدمة بأنها تعبير عن تقاسم الصلاحيات بشكل أوسع بين المركز وباقي التراب ، أي إعادة النظر في الأدوار الجديدة للدولة بما يتيح تقاسم المسؤوليات بين الدولة والجهات.

   فالجهوية يمكن اعتبارها تحديث في بنية هياكل الدولة والإدارة ، فهي تعيد النظر في علاقات السلطات المركزية بالمنتخبين ، سعيا نحو الانتقال من علاقات السلطة العمومية المقترنة بالوصاية والرقابة إلى علاقات التشاور والتدبير التشاركي والتعاون ،دون أي إخلال بالاختصاصات التي تعود حكرا للدولة ، ولا بالصلاحيات التي تمكنها من ضمان سيادة القانون ، وأسبقية وصدارة السياسات الوطنية على المحلية.[1]

   والفصل 136 من دستور 2011 ، ينص على أن التنظيم الجهوي والترابي يرتكز على مبادئ التدبير الحر وعلى التعاون والتضامن، ويؤمن مشاركة السكان المعنيين في تدبير شؤونهم والرفع من مساهمتهم في التنمية البشرية المندمجة والمستدامة .

أما الفصل 137 من نفس الدستور فينص على ” أن الجهات والجماعات الترابية الأخرى تساهم في تفعيل السياسة العامة للدولة ، وفي إعداد السياسات الترابية ، من خلال ممثليها في مجلس المستشارين.

فالجهوية المتقدمة تندرج في إطار السياسات العمومية للمغرب ، كآلية لتفعيل الديمقراطية المحلية على المستوى الوطني من خلال ترك الحرية في الاختيارات ووضع البرامج الاقتصادية والاجتماعية والتنموية للسكان المحليين حسب كل جهة يديرونها حسب قدراتهم ومواردهم الذاتية ، في إطار من التضامن والتكامل بين باقي الجهات.

فالمقاربة التنموية الجديدة أصبحت تفرض الانتقال من تنظيم إداري مبني على البيروقراطية والمركزية المفرطة أو المتشددة إلى نظام يتأسس على الحكامة الجيدة والمقاربة   الترابية وتدعيم سياسة القرب، أي نظام إداري يشبه إلى حد كبير الأنظمة المطبقة في الدول الجهوية كاسبانيا وإيطاليا ..وقد سبق لجلالة الملك محمد السادس أن عبر في خطابه بتاريخ 20 غشت 2010 بأن تكون الجهوية تحولا نوعيا في أنماط الحكامة الترابية .., أن إطلاق ورش الجهوية المتقدمة توطيدا للحكامة الترابية الجيدة والتنمية المندمجة… وقد جاء الخطاب الملكي بتاريخ 3 يناير 2010 حول تنصيب اللجنة الاستشارية للجهوية ليسطر التوجهات والمرتكزات الأساسية للجهوية والتي تتجلى في التالي:

أولا: التشبث بمقدسات الأمة وثوابتهافي وحدة الدولة والوطن والتراب..فالجهوية المتقدمة ينبغي أن تكون تأكيدا ديمقراطيا للتميز المغربي الغني بتنوع روافده الثقافية والمجالية المنصهرة في هوية وطنية موحدة.

ثانيا: الالتزام بالتضامن إذ لا ينبغي اختزال الجهوية في مجرد توزيع جديد للسلطات بين المركز والجهات.

ثالثا: اعتماد التناسق والتوازن في الصلاحيات والإمكانات وتفادي تداخل الاختصاصات أو تضاربها بين مختلف الجماعات المحلية والسلطات والمؤسسات.

رابعا: انتهاج سياسة اللاتمركز الواسع الذي لن تستقيم الجهوية بدون تفعيله في نطاق حكامة ترابية ناجعة قائمة على التناسق والتفاعل.

   وقد توخى الخطاب الملكي المتعلق بتنصيب اللجنة الجهوية الاستشارية بلوغ أهداف جوهرية أهمها وجود جهات قوية ذات مجالس وأجهزة تمثيلية وليست صورية، على رأسها نخب مؤهلة ومؤطرة قادرة على حسن تدبير شؤون الجهات المشرفة عليها والاستجابة لتطلعات المواطنين وحاجياتهم التنموية.

الفقرة الثانية: أهداف الجهوية المتقدمة

يمكن القول أن الجهوية تتوخى في أهم أبعادها وأهدافها ترسيخ الحكامة المحلية ، وتعزيز سياسة القرب من المواطن ، وتفعيل التنمية الجهوية المندمجة. والحكامة المحلية وهي مختلف الإمكانات والآليات التي من خلالها يمكن للمنتخبين المحليين ترشيد وعقلنة تدبيرهم للشأن المحلي ، وكذا مأسسة الفعل والقرار الإداريين وتدبير الموارد البشرية المحلية بشكل خاص، وهو ما يجعل من الحكامة المحلية مجموعة من الأدوات التدبيرية التي تسعى إلى ترشيد النظام الإداري والمالي والبشري بهدف تحقيق أقصى النتائج من خلال التركيز على مبادئ الشفافية والنجاعة والمأسسة والمسؤولية.[2]، وتمكن المنتخبين المحليين من استثمار مختلف الامكانات التواصلية والتدبيرية من أجل توفير الخدمات لمرتفقي الجماعات المحلية.

وحتى تكون الحكامة المحلية مجسدة على ارض الواقع ،فإن ذلك يبقى رهينا بمدى وعي النخب المحلية   بحجم المسؤوليات الملقاة على كاهلهم لتحقيق التنمية المحلية ، والاستجابة لطموحات المواطنين وتلبية حاجياتهم والتواصل معهم ، مع التخطيط لهذه الحاجيات وبرمجة تنفيذها باعتماد الشفافية والتدبير الناجع والعقلاني .

كما أن تطوير الجهوية المتقدمة يتطلب وجود قيادات جهوية منتخبة محلية قريبة من مواطنيها ، وتعزيز سياسة القرب من الساكنة يشكل المحك الحقيقي للإدارة الجهوية المواطنة القريبة من اهتمامات وتطلعات المواطن في الخدمات العمومية الجيدة.

   فالتجديد في المناهج وآليات التواصل مع المواطنين، يتطلب الانتقال بالتدبير الجهوي من تدبير بيروقراطي منغلق إلى تدبير ديمقراطي تشاركي دينامي، يمكن الجهات من النهوض بدورها كفاعل اقتصادي واجتماعي يواكب المستجدات والتطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وذلك في إطار الخطاب المركزي الذي ينادي بسياسة القرب من خلال تفعيل الدور التنموي للجماعات الترابية.

ومن أجل النهوض بعملية التنمية الجهوية المندمجة ، فإن الأمر يتطلب بإلحاح من المنتخبين تحفيز كل الطاقات وتحديد الأولويات ، وإدخال أنماط تدبيرية   ناجعة قائمة على إطلاق مبادرات التنمية ، تمكنهم من تحريك كل الإمكانات الذاتية للجهة مع استحضار مختلف التجارب الأجنبية الناجحة في استراتيجيات العمل الجهوي.

كما ينبغي للنخب الجهوية تبني التدبير التشاركي مع كل الكفاءات المحلية والفاعلين العموميين والخواص والجمعيات المهنية والجامعات والباحثين لكي تصبح الجهة فاعلا في التنمية ومنتجا للثروة، من خلال تخطيط استراتيجي تساهم فيها الجهة بفعالية ، يرتكز على مجموعة من الوسائل والآليات التدبيرية والتي يمكن إجمالها في توفير المحيط الملائم للمبادرات المحلية قصد تقوية القدرات الفردية والجماعية في الاستثمار والإنتاج ، مع إدماج الخصوصيات الاجتماعية والثقافية والبيئية في البعد الاقتصادي للتنمية.

إن بناء جهوية متقدمة لها دور أساسي في تدبير المجال الترابي وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية يتطلب تحديد العلاقات بين الدولة والجهات ، في إطار إعطاء هذه الأخيرة حرية اتخاذ القرار التنموي في عدة مجالات (حماية البيئة، تعبئة الموارد المحلية، التخطيط وتهيئة التراب، التعمير، تنشيط الاستثمارات، إقامة البنيات التحتية والتجهيزات العمومية، إحداث المنشآت العمومية، التربية والتكوين …إلخ).

وعليه حتى تلعب الجهوية المتقدمة دورا رئيسيا في ترسيخ الحكامة المحلية ، و تدعم مسلسل اللامركزية الإدارية في بلادنا ، فإن الأمر يتطلب اتخاذ التدابير التالية:

إن تكريس الجهوية المتقدمة يتطلب من الدولة منح الجهات مزيدا من الحرية والاستقلال الاداري والمالي ، وتعزيز مواردها المالية والبشرية والتخفيف من حدة الوصاية والرقابة وتعويضها بنظام المواكبة الإدارية ونظام الرقابة القضائية والمالية البعدية.إصلاح نظام عدم التركيز الاداري بشكل يخدم الجهوية المتقدمة وينسجم مع توجهاتها الكبرى، وذلك من خلال تنازل الإدارات المركزية عن المزيد من الاختصاصات الفعلية لصالح مصالحها الخارجية (المندوبيات ، المديريات الجهوية  المفتشيات الاقليمية..) مع نقل الموارد المالية والبشرية لفائدة هذه الوحدات الادارية إذ لا جهوية في ظل التركيز الإداري ، بحيث ينبغي أن يصبح عدم التركيز هو القاعدة الأساسية في توزيع المهام بين مختلف المصالح الإدارية التابعة للدولة مما يسمح بتفعيل الحكامة الترابية .حتى تتأسس الجهوية المتقدمة على قواعد متينة ، ينبغي للإدارة المركزية وصناع القرار بالمركز ، القطيعة مع أسلوب التحكم والضبط والتدخل والمراقبة ، ونهج أسلوب الديمقراطية والحوار والتدبير التشاركي والتشاور والتواصل مع كل الفاعلين المحليين.إحداث مراكز للتكوين المعرفي للنخب المحلية ، مع التنصيص القانوني لشرط الأهلية المعرفية ، لا يعقل أن نبني الجهوية المتقدمة بنخب أمية أو تتوفر على شهادة معرفية لا تؤهلها لتدبير الشأن الجهوي .التحديد القانوني الدقيق للمهام التي سيتولاها المنتخبون المحليون ، تفاديا لتداخل الاختصاصات مع باقي مكونات الإدارة المحلية، مع التركيز على مهام التنمية الاجتماعية والاقتصادية والتعمير وإعداد التراب والتجهيز وإحداث المناطق الصناعية وتأهيل المنشآت التعليمية ، وتشجيع آليات التعاقد بين الدولة والجهات.الإصلاح العميق لمنظومة الموارد البشرية والمالية، وتمكين رؤساء الجهات من سلطات فعلية وحقيقية على الموارد البشرية الجهوية .[3]تعزيز الحكامة المحلية في نطاق الجهوية يقتضي أساسا ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتسيير المرافق بناء على معايير الشفافية والجودة والنجاعة .

إن الإصلاح المنشود والكفيل بترسيخ الحكامة الترابية ، لا يمكن اختزاله في مجرد إصدار نصوص قانونية جديدة ، مهما كانت متطورة ، ولا في وجود هياكل إدارية واختصاصات إضافية ، بل إن الأمر يقتضي أساسا رؤية شمولية ذات أهداف دقيقة وأبعاد استراتيجية. فالتغيير يجب أن يكون هيكليا يعيد النظر في طريقة توزيع السلطة والثروة، وفي آليات توزيع النخب، وفي نظام العلاقة بين المركز والجهة،أي إقرار ديمقراطية حقيقية.

إرسال تعليق

أحدث أقدم