قراءة دستورية وقانونية في الفصل 47 من الدستور المغربي


بؤس السياسة وهشاشة "التأويل الديمقراطي"
قراءة دستورية وقانونية في الفصل 47 من الدستور المغربي(1)


ذ.عبد العزيز فجال

تقديم:
كثر القيل والقال وكثرة السجال بين أهل السياسة ورجال القانون، و"كتبة"(2)بعض الأحزاب حول البدائل الممكنة والسيناريوهات المحتملة لتشكيل الحكومة، بعد فشل رئيس الحكومة المعين بموجب الظهير رقم 1.16.160 الصادر في 17 أكتوبر 2016 بتعيين السيد عبد الإله ابن كيران رئيسا للحكومة، تفعيلا لأحكام الفصل 47 من الظهير الشريف رقم 1.11.91 صادر في 27 من شعبان 1432 (29 يوليو 2011) بتنفيذ نص الدستور.

وذهب فريق منهم، إلى القول بضرورة الرجوع إلى صناديق الاقتراع وفق ما تستدعيه " المنهجية الديمقراطية"(3)، في حين رآى آخرون أن "التأويل الديمقراطي" للدستور يستدعي تكليف الحزب الذي احتل المرتبة الثانية بتشكيل الحكومة(4)، بينما ذهب فريق ثالث(5) إلى القول بإمكانية تشكيل حكومة ائتلاف وطني لتفادي الانسداد الذي يعرفه المشهد السياسي المغربي.
والواقع، أن كل هاته السيناريوهات والبدائل تبدو جائزة وممكنة،وتنطوي على بعض الحقيقة. لكنها، مع ذلك، تعاكس فحوى النص الدستوري وتتناقض مع المبادئ العامة الموجهة للوثيقة الدستورية باعتبارها أسمى وثيقة في الهرم القانوني للدولة.
فالسيناريوهات والبدائل المطروحة، هي في واقع الأمر،"مطالب"ضمنيةللهيئات الحزبية قصد مراجعة أحكام الفصل 47 من الدستور. لكنها،بدون قصد، لم تأخذ بعين الاعتبارتجاوزهاالصريح للاختصاصات الحصرية والرمزية المحفوظة للملك، فضلا عنخروجها عن الثوابت والمرتكزات المنصوص عليها في الفصل الأول، من الباب الأولللدستور، الذي يؤكد أن نظام الحكم بالمغرب نظام ملكية دستورية، ديمقراطية برلمانية واجتماعية، يقوم على أساس الديمقراطية المواطنة والتشاركية.

فالتجربة المغربية، تختلف كليا عن التجارب الدستورية العربية والملكيات الغربية التي يريد البعض محاولة فرضها وإلصاقها عنوة بالنموذج المغربي القائم على "الإصلاح في ظل الاستمرارية"، والتي تكرس"قدسية الثوابت، التي هي محط إجماع وطني، وهي الإسلام كدين للدولة، الضامنة لحرية ممارسة الشعائر الدينية، وإمارة المؤمنين، والنظام الملكي، والوحدة الوطنية والترابية، والخيار الديمقراطي، الضمان القوي، والأساس المتين، لتوافق تاريخي، يشكل ميثاقا جديدا بين العرش والشعب"(6).
لذلك، تبقى هذه السجالات مجرد تأويلات تبريرية لمصالح ومكاسب حزبية ضيقة، تنأى عن الفهم والإدراك السليم لمضامين الوثيقة الدستورية، وتتجاوز أحيانا تبريراتها بتغليفها بمزاعم"المصلحة العليا للوطن" والحفاظ على استقرار الدولةفي تناقض صريح مع الوظائف المسندة للأحزاب السياسية بموجب الفصل السابع من الدستور. وهو ما حذرمنهالخطاب الملكيالموجه إلى الأمةبمناسبة الذكرى 17 لعيد العرشيوم الأربعاء 27 مارس 2013، " أقول للجميع أغلبية ومعارضة: كفى من الركوب على الوطن، لتصفية حسابات شخصية، أو لتحقيق أغراض حزبية ضيقة".
ومن أجل توضيح سياق المقاربة الدستورية والقانونية التي اعتمدناها في تأويل منطوق الفصل 47من الدستور، سنحاول توضيح عمق ارتباط المتن الدستوري بالثوابت والمرتكزات التي تؤطر نظام الحكم وطبيعة توزيع السلط بالمغرب، وفق بناء هندسي يكرس رمزية وهيمنة المؤسسة الملكية على باقي السلطات، كما نروم من خلال تأويلنا التقيد بالنص الدستوري، والنأي عن الاعتبارات السياسية والحزبية الضيقة التي أطرت مجمل النقاشات والسجالات.

 قراءة دستورية وقانونية لمنطوق الفصل 47 من الوثيقة الدستورية.

إن الحديث عن الثوابت والمرتكزات التي تؤطر الوثيقة الدستورية ليس حديثا مجانيا أو اعتباطيا، بل هو جزء من لحمة الضبط النسقي والسياسي لمكونات الهندسة الدستورية التي رسمها المشرع المغربي، وفق بنية متحركة تتفاعل فيها مضامينومعاني الوثيقة الدستورية، من خلال الترابط والتكامل القائم بينها، والإحالات، الضمنية والصريحة، التي تؤطرها وتخضع لها.

وعليه، فإن أي تأويل أو تفسير للقاعدة الدستورية خارج هذا السياق، لا يمكن الاعتداد به، ويبقى فهما سطحيا وجافا غير مستوف للقراءة الدستورية الموضوعية، بعيدا عن أية مزايدات أو تبريرات انتهازية. فمثلا، ينص منطوق الفصل 25، من الباب الثاني المتعلق بالحريات والحقوق الأساسية، على أن "حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها"؛ لكنه لم يفصح أو يحدد هامش ممارسة حرية الرأي والفكر، لأنه تحصيل حاصل، أي مادامت لا تتعارض مع الثوابت والمرتكزات المنصوص عليها في الفصل الأول من الدستور. ونفس الأمر، بالنسبة لمضمون الفصل 28 الذي ينص على أن "حرية الصحافة مضمونة، ولا يمكن تقييدها بأي شكل من أشكال الرقابة القبلية"،

ومن هذا المنطلق، لا يمكن مقاربة أو تأويل الفصل 47 من الدستور المغربي بمعزل عن هذا النسق المتحرك والمتفاعل ضمن شبكة معقدة تتغيا التموضع ضمن ثوابت ومرتكزات جامعة ومطلقة.

فالفصل 47 من الدستور ينص بوضوح، في فقرته الأولى، على أن "الملك يعين رئيس الحكومة من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها".

فالنص الدستوري، يتحدث عن الحزب المتصدر، أي الحزب الذي حصل على أكبر عدد من المقاعد، وليس شخص معين بذاته، كالأمين العام للحزب، أو أي شخص بصفته النيابية، أو أي شخص آخر قد يقع عليه الاختيار من طرف الحزب.

ولعل حكمة المشرع من هذا التنصيص، هو تفادي الدخول في الصراعات والتوترات التي قد تحدث داخل الحزب، وهذا محتمل، حول رئاسة الحكومة؛ وكذا افتراض وقوع انشقاق داخل الحزب الذي تصدر نتائج الانتخابات بمجرد الإعلان عن نتائجها. كما أن هذا التنصيص يفسح المجال للملك، بموجب الفصلين 41 و42 من الدستور، لاختيار من يراه مناسبا لرئاسة الحكومة، خاصة إذا ثبت أن الأمين العام للحزب المتصدر، صدر في حقه حكم،قبل أو بعد استصدار النتائج، بسبب الأفعال أو الحالات المنصوص عليها في الفصل 22 من القانون رقم 06-62 بتاريخ 23 مارس 2007 بتغيير وتتميم الظهير الشريف رقم 250-58-1 بتاريخ 19 شتنبر 1958 بسن قانون الجنسية المغربية، وكذا إمكانية مخالفة أحكامالفصل 31 من القانون التنظيمي رقم 065.13 المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها، وأيضا احتمال التورط أو التعبير أو التصريح عن آراء تعاكس "قدسية الثوابت الوطنية"، كما جاء في خطاب الملك ليوم الأربعاء 9 مارس 2011 حول الجهوية الموسعة، والإعلان عن تكوين لجنة خاصة لمراجعة الدستور.

وهذا التأويل، يفيد أن الملك، يمكن أن يعين شخصا آخر من الحزب المتصدر، غير الأمين العام للحزب، ولا يمكن أن يرفضهذا التعيين، لأن قرارات الملك تكتسي طابعا نهائيالا يجوز مناقشتها أو الطعن فيها.

لذلك، يمكن التأكيد، أن الصياغة اللفظية للمقطع الأول من الفقرة الأولى جاءت دقيقة وواضحة ومنسجمة، مع المقطع الثاني من نفس الفقرة التي تنص " وعلى أساس نتائجها"، التي تفيد إمكانية تعيين الحزب الذي حل ثانيا، في حالة فشل الحزب المتصدر في تشكيل الحكومة.وهو افتراض جائز وممكن، تبرره الإحالة المنصوص عليها في الفصل 98 من الدستور، التي ربطت حل مجلس النواب بعدم التوفر على أغلبية حكومية، ولم تتحدث عن فشل الحزب الأول أو عدم قدرته على تكوين أغلبية حكومية.

وهذا الطرح، يجد سنده، ضمنيا، في نص الخطاب الملكيبمناسبة الذكرى الحادية والأربعين للمسيرة الخضراء بتاريخ06 نوفمبر 2016، حيث أكدالملك أن " الحكومة المقبلة، لا ينبغي أن تكون مسألة حسابية، تتعلق بإرضاء رغبات أحزاب سياسية، وتكوين أغلبية عددية، وكأن الأمر يتعلق بتقسيم غنيمة انتخابية.بل الحكومة هي برنامج واضح، وأولويات محددة، للقضايا الداخلية والخارجية، وعلى رأسها إفريقيا".

ويمكن، أيضا، طرح احتمال تشكيل حكومة ائتلاف وطني أو اعتماد خيار اللجوء إلى الفصل 59من الدستور، أي الإعلان عن حالة الاستثناء، لاستيفاء الشرط المتعلق بوجود خلل في السير العادي للمؤسسات الدستورية، منذ ما يربو على الخمسة أشهر، فضلا عن الانزلاقات والمزايدات الرخيصة التي طفت مؤخرا على الساحة السياسية الوطنية، فضلا عن المستجدات التي يعرفها المحيط الدولي.
وبالرغم من تنصيص الفقرة الثانية من الفصل 47 من الدستور، على أن الملك يعين أعضاء الحكومة باقتراح من رئيس الحكومة، فإن الملك بموجب السلطات والصلاحيات الواسعة التي يتمتع بها، خارج أحكام الدستور، يمكنه رفض تعيين عضو من الأعضاء المقترحين للإستوزار، كما يمكنه المبادرة بتعيين أعضاء في الحكومة المرتقبة، دون أن يرفض طلبه، خاصة في قطاعات الداخلية والخارجية وإدارة الدفاع الوطني؛ هذا فضلا عن أن الأمانة العامة للحكومة ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تخرج عن دائرة اقتراحات رئيس الحكومة، بالرغم من وجودهم ضمن التشكيلة الحكومية المعينة من طرف الملك(7). لذلك، فاقتراحات رئيس الحكومة، وفق ما جاء في الفقرة الثانية، من الفصل 47 من الدستور، لا يمكن أن نجزم بأنها تطبيق سليم للدستور، إذا لم نضعها في السياق والمقاربة التي اعتمدناها لتأويل مضامين الدستور المغربي.
وذهب بعض رجال القانون(8) إلى القول بإمكانية حل مجلس النواب من طرف رئيس الحكومة، بموجب الفصل 104من الدستور الذي ينص على أنه "يمكن لرئيس الحكومة حل مجلس النواب، بعد استشارة الملك ورئيس المجلس، ورئيس المحكمة الدستورية، بمرسوم يتخذ في مجلس وزاري. ويقدم رئيس الحكومة أمام مجلس النواب تصريحا يتضمن، بصفة خاصة، دوافع قرار الحل وأهدافه". والحقيقة، أنهذا الرأي يتسم بالغرابة والتهور، إن لم أقل الخرف الدستوري؛ لأن رئيس الحكومة المعين من طرف الملك بموجب الظهير رقم 1.16.160 الصادر في 17 أكتوبر 2016 بتعيين السيد عبد الإله ابن كيران رئيسا للحكومة، تفعيلا لأحكام الفصل 47 من الدستور، تنحصر اختصاصاته، وفق مضمون المادة 38 من القانون التنظيمي رقم 065.13 المتعلق بتنظيم وتسيير أشغال الحكومة والوضع القانوني لأعضائها، في ممارسة المهام التالية:
  •      إعداد البرنامج الحكومي الذي يعتزم رئيس الحكومة عرضه أمام البرلمان؛
  •      إصدار قرارات تفويض الاختصاص أو الإمضاء اللازمة لضمان استمرارية المرافق العمومية؛
  •   اتخاذ المراسيم والقرارات والمقررات الإدارية الضرورية والتدابير المستعجلة اللازمة لضمان استمرارية عمل مصالح الدولة ومؤسساتها، وضمان انتظام سير المرافق العمومية.

فالتعيين الوارد في الفصل 47، بتسمية رئيس الحكومة من الحزب المتصدر، يبقى تعيينا شكليا (9)، لأن الحكومة المعينة من طرف الملك لا تستكمل وجودها القانوني والفعلي إلا بعد حصولها على التنصيب البرلماني، وفق ما نصت عليه الفقرة الثالثة من الفصل 88 من الدستورالتي تنص صراحة على أن " الحكومة تعتبر منصبة بعد حصولها على ثقة مجلس النواب، المعبر عنها بتصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم، لصالح برنامج الحكومة".  كما تجب الإشارة،إلى أهمية الحذف الذي طال الفقرة الأولى من الفصل 60 من دستور 1996، الذي يقابله الفصل 88 من دستور 2001، والتي كانت تنص على أن "الحكومة مسؤولة أمام الملك وأمام البرلمان"، يتماشى مع المنطق الدستوري في توسيع اختصاصات البرلمان في مجال التشريع(10).
وبالرجوع إلى دساتير بعض الدول، نجد أنها نصت على كلمة "اقتراح" أو "تكليف" عوض "تعيين"، لما له من دلالة قانونية وحمولة قوية، إذ أن "التعيين" بمفهومه القانوني لا يكتمل، في حالتنا، إلا بعد التنصيب البرلماني.فالدستور الإسباني لسنة 1978، مثلا، ينص في فقرته الأولى من الفصل 99 على أن "الملك يقترح لرئاسة الحكومة، في كل مرة ينتخب فيها مجلس نواب جديد، وفي باقي الحالات المماثلة التي ينص عليها الدستور، بعد أن يكون قد أجرى مشاورات مسبقة مع الممثلين الذين تعينهم الأحزاب الممثلة في البرلمان، ويقترح الملك مرشحا عن طريق رئيس مجلس النواب". وتنص الفقرة الثالثة من نفس الفصل، على أنه "إذا منح مجلس النواب ثقته بتصويت الأغلبية المطلقة لأعضائه للمرشح المذكور، يعينه الملك رئيسا للحكومة". وهو نفس التنصيص، الذي تبناه دستور الجمهورية التونسية لسنة 2014، في مادته 89 التيتنص في فقرتها الثانية على أن"رئيس الجمهورية يكلف مرشح الحزب أو الائتلاف الانتخابي المتحصل على أكبر عدد من المقاعد بمجلس نواب الشعب، بتكوين الحكومة خلال شهر يجدّد مرة واحدة". كما تنص الفقرة الخامسة، من ذات الفصل، على أن "الحكومة تعرض موجز برنامج عملها على مجلس نواب الشعب لنيل ثقة المجلس بالأغلبية المطلقة لأعضائه. عند نيل الحكومة ثقة المجلس يتولى رئيس الجمهورية فورا تعيين رئيس الحكومة وأعضائها".

أما فيما يتعلق، بالرأي القائل بإعادة الانتخابات والعودة إلى صناديق الاقتراع، فهو طرح ساذج ينم عن قصور واضح في فهم وإدراك مضامين الوثيقة الدستورية المغربية، لأنه يخرج عن السياق الذي تحدثنا عنه، ولا يستقيم مع التأويلالذي يكرسه الفصلين 41 و42 من الدستور، فضلا عن تكلفته السياسية والاجتماعية، خاصة وأن العودة إلى صناديق الاقتراع لن تفرز أغلبية واضحة، لأن خيار التعددية الحزبية، الذي اختاره المغرب كمبدأ موجه لإرساء دعائم الدولة، والنظام الانتخابي القائم على نمط الاقتراع النسبي باللائحة يضمن تمثيلية جميع الأحزاب المشاركة في عملية الانتخابات، بما يخلق التوازن والتحكم في الخريطة الحزبية. فالانتخابات، "ليست غاية في حد ذاتها"(11)، وإنما هي وسيلة لمشاركة الأحزاب السياسيةفي ممارسة السلطة، على أساس التعددية والتناوب، بالوسائل الديمقراطية، وفي نطاق المؤسسات الدستورية، طبقا لمضمون الفصل السابع من الدستور.

   ووفقا لذلك، فكيفما كان التأويل الذي سيعتمده الملك، باعتباره رئيساللدولة، وممثلها الأسمى، ورمز وحدة الأمة، وضامن دوام الدولة واستمرارها، والحكم الأسمى بين مؤسساتها، والساهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، وكذا باعتباره أميراللمؤمنين، لأن إمارة المؤمنين لا تحيل فقط إلى تدبير الأمور الدينية، بل تشمل أيضا تدبير الأمور الدنيوية، لأن أحكام بيعة أمير المؤمنين، كقاعدة دستورية غير مكتوبة، بمثابة"الرابط الأسمى بين الملك والشعب، تجمع الحاكم بالمحكومين، وتنظم العلاقة بينهم في إطار تعاقدي متبادل، يضمن استمرارية وديمومة الدولة المغربية، وفق ثوابتها الشرعية، ويحفظ للشعب المغربي كرامته ووحدته وسيادته على أراضيه"(12)؛ فإنه سيشكل ممارسة وعرف دستوري لتحصين منطوق الفصل 47 من التأويلات الخاطئة والضيقة التي لا تنسجم مع جوهرمضامين الوثيقة الدستورية والثوابت التي تؤطرها وتخضع لها.

استنتاجات:

كما سبق أن أوضحنا، يمكن التأكيد، أن المشرع الدستوري، عند صياغته لمضمون الفصل 47 من الدستور، كان واعيا وملما ومحيطا بحدود وهامش الصياغة القانونية التي يمكن أن تتعارض أو تتجاوز حدود المبادئ والثوابت والمرتكزات التي يتأسس عليها جوهر نظام الحكم في المغرب. لذلك، تعمد ترك فراغات في ثنايا الفصل 47 من الدستور، ليس لجهله أو عدم إلمامه بحيثيات الإشكالية، بل لمعرفته العليمة أن الخوض في هذه المجالات يعتبرتجاوزا وتدخلا في الاختصاصات الحصرية المحفوظة للملك باعتباره "يسود ويحكم"، اللذانيؤطران الهندسة الدستورية المغربية.
والحالة هاته، فنحن لا نتفق مع آراء أغلبية الفقهاء الدستوريين الذين رأوا أن هذا الفصل أغفل التنصيص على بعض المقتضيات، أو أن المشرع الدستوري لم ينتبه إلى هذه الإشكالية، وإنما المغزى والحكمة من هذا التنصيص المتسم بالإطلاق والعمومية، هو الالتزام بقواعد الصياغة القانونيةالتي تؤطرها مرجعية الثوابت والمرتكزات، التي حكمتمنهجية وضع الدستور المغربي، باعتباره أساس التعاقد السياسي والاجتماعي.

إن المطالبة بتعديل الفصل 47 من الدستور، لاسيما في الشق المتعلق بحالة عدم قدرة الحزب المتصدر على تشكيل الحكومة، لن تستقيم بدون مراجعة الفصلين 41 و42، وكذا مضامين الفصول المرتبطة باختصاصات الملك.لذلك، فمطالبة بعض الهيئات الحزبية ورجال القانون بهذه المراجعة، عن غير قصد أو جهل، هو أمر مرفوض لمخالفته منطوق الفصل 75 من الدستور.
والجدير بالإشارة، أن أغلبية الدساتير الديمقراطية في العالم تنص، فور "تنصيب" الحكومة، على تأدية القسم أو اليمين الدستورية أمام مجلس النواب، في حين أن الحكومة في المغرب، ونظرا للاعتبار المحوري والفاعل للملك في النظام الدستوري المغربي، فإن الحكومة المعينة، قبل حصولها على التنصيب البرلماني، تقدم اليمين الدستورية أمام الملك (13). وهو ما يجعلها تحت سلطته بالرغم من بعض الاختصاصات الحصرية المسندة إليها بموجب الدستور؛كما يطرح، أيضا، سؤال الجدوى من التنصيص على مبدإ " التنصيب البرلماني" بموجب الفقرة الثالثة من الفصل 88 التي تنص على أن "الحكومة تعتبر منصبة بعد حصولها على ثقة مجلس النواب، المعبر عنها بتصويت الأغلبية المطلقة للأعضاء الذين يتألف منهم، لصالح برنامج الحكومة". هذا، فضلا عن أن الدستور المغربي لا ينص على تقديم الملك عند توليه العرش لليمين الدستورية أمام البرلمان، مثل دساتير أغلبية الأنظمة الملكية، كالدستور الكويتي،مثلا، لسنة 1962 الذي ينص في المادة 60 على " الأمير يؤدي قبل ممارسة صلاحياته، في جلسة خاصة لمجلس الأمة، اليمين الدستورية الآتية: " أقسم بالله العظيم أن أحترم الدستور وقوانين الدولة، وأذوذ عن حريات الشعب ومصالحه وأمواله وأصون استقلال الوطن وسلامة أراضيه"، وهو نفس التنصيص الوارد في المادة السابعة من الدستور العماني؛ كما ينص الدستور الأردني لسنة 2011 في مادته 29 على أن الملك "يقسم إثر تبوئه العرش، أمام مجلس الأمة الذي يلتئم برئاسة رئيس مجلس الأعيان، أن يحافظ على الدستور وأن يخلص للأمة".
وعموما، فالقرار الذي سيتخذه الملك،حتى عن طريق "التحكيم"، ولو أن الأمر يخرج عن هذا الإطار، سيشكل مخرجا وممارسة دستورية ذات طابع ملزم لجميع الفاعلين والنخب السياسية، بما يتناسب ودرجة نضج مسار الانتقال الديمقراطي(14) ورهانات السياق الوطني والدولي.
ذ. عبد العزيز فجال

الهوامش:


(1)      المقال، في الأصل، هو دراسة مستفيضة حول السياق العام لمنطوق الفصل 47 في الوثيقة الدستورية، انطلاقا من مقاربة دستورية وقانونية تنأى عن الاعتبارات السياسية والحزبية.
(2)      أي الذين يضعون المصلحة الضيقة للحزب فوق الاعتبارات الدستورية، ويحاولون تفسير وتأويل النص الدستوري وفق أغراض حزبية ضيقة.
(3)          حوار مع مصطفى السحيمي في جريدة "أخبار اليوم"، العدد 2275 بتاريخ 12 مارس 2017؛ عبد العالي حامي الدين،جريدة"القدس العربي" بتاريخ 25 نونبر 2016.
(4)          عبد اللطيف وهبي: "خيارات دستورية للملك تواجه أزمة تشكيل حكومة بنكيران" منشور بموقع هسبريس ليوم الثلاثاء 13 دجنبر 2016.
(5)          وجهة نظر بعض الأحزاب والفاعلين السياسيين ورجال القانون.
(6)          الخطاب الملكي ليوم الأربعاء 9 مارس 2011 حول إعلان الملك عن تكوين لجنة خاصة لمراجعة الدستور.
(7)          بعض القطاعات الحكومية الأخرى أيضا، لم تخضع لاقتراح رئيس الحكومة، منها على الخصوص قطاع التربية الوطنية والتكوين المهني،قطاع الصناعة والتجارة والاستثمار والاقتصاد الرقمي، الوزارة المنتدبة لدى وزير الداخلية.
(8)          حوار مع بن يونس المرزوقي، جريدة "الأيام الأسبوعية"، العدد 747 بتاريخ 23 فبراير 2017.
(9)          عبد العزيز فجال: الثابت والمتحول في الدستور الجديد، قراءة في مسارات التطبيق، (محاولة قانونية لفهم معنى "التعيين" و"التنصيب" في الدستور الجديد)، مجلة رهانات، العدد 23، صيف 2012.
(10)       نفس المرجع.
(11)       الخطاب الذي ألقاه الملك،أمام البرلمان،يوم الجمعة09 أكتوبر2015، في افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة من الولاية التشريعية التاسعة.
(12)       كتاب "البيعة ميثاق مستمر بين الملك والشعب" 2011، بهيجة سيمو، مديرية الوثائق الملكية بالرباط.
(13)       اليمين الدستورية للحكومة بالمغرب أمام الملك: " أقسم بالله العظيم، أن أكون مخلصا لدينيي ولملكي ولوطني، وأن أدي مهمتي بصدق وأمانة، وأن أخدم الصالح العام، ساهرا على سيادة المغرب ووحدة ترابه".

(14)       الانتقال الديمقراطي،Maud Navaro مجلة "sciences humaines» العدد 280 أبريل 2016 ترجمة عبد العزيز فجال، مجلة رهانات، العدد 38، 2016.


إرسال تعليق

أحدث أقدم