التنظيم القضائي المغربي : مقدمة و مستجدات


يمنح التنظيم القضائي للباحث أو القارئ فرصة معرفية للإطلاع على سياسة الدولة ومن خلالها المشرع على فلسفتها العامة في تدبير مجال القضاء سواء في الجانب المتعلق بالحياة الإدارية لرجال القضاء وأصنافهم واختصاصاتهم ومختلف الأحكام المتعلقة بوضعياتهم، وكذا باقي المكونات الأخرى من الموظفين الإداريين المنتمين لهيئة كتابة الضبط، إضافة إلى الجانب المؤسساتي المتمثل في الإدارة المركزية الوصية على قطاع العدل وهيكلتها والاختصاصات المنوطة بها، وباقي الوحدات الإدارية التي تعد امتدادا لها من مديريات فرعية ومحاكم ومراكز القضاة المقيمين، وكيفية رقابة تصريف الإجراءات والأشغال المنوطة بها من خلال التفتيش التسلسلي الذي يضطلع به المسؤولون القضائيون على مستوى الدوائر القضائية الإستئنافية، والمركزي الذي تقوم به المفتشية العامة بوزارة العدل والحريات.
 وقد تطورت الممارسة القضائية في هذا الإتجاه منذ السنوات الأولى للاستقلال وإحداث المجلس الأعلى مرورا بمختلف الأحداث والتطورات التي شهدها الجسم القضائي بإصدار ظهير التنظيم القضائي في 15 يوليوز 1974، وقانون التوحيد والتعريب والمغربة والقانون المنظم لرجال القضاء، والتعديلات التي لحقت مختلف القوانين سيما في ما يتعلق بإحداث المحاكم الإدارية والتجارية وأقسام قضاء الأسرة وقضاء القرب، ولازالت التطورات تتلاحق لتنسجم مع طبيعة الخدمات التي يقدمها مرفق القضاء الذي يحتاج إلى تأهيل للنهوض بالمهام المنوطة به في زمن التكنلوجيات واستخدام المعلوميات، وهو ما تعيه وزارة العدل والحريات جيدا وانخرطت فيه بقوة تمهيدا للمحكمة الرقمية في أفق سنة 2020.
 في ظل هذه الفلسفة العامة، ووعيا منا بأهمية التنظيم القضائي في تمثل سياسة الدولة في تدبير مرفقها القضائي، حاولنا تقديم هذا الكتاب كمجهود فكري اعتمدنا فيه مقاربة منهجية أسسناها على ثلاث معطيات أساسية :
 أولا : مقاربة التنظيم القضائي في جانبه المؤسساتي من خلال الإطلاع على الوحدات القضائية المختلفة من محاكم الدرجة الأولى والثانية ومحكمة النقض، والمحاكم العادية والمتخصصة المتمثلة في الإدارية والتجارية، والوقوف على كيفية تأليفها وتنظيمها والمكونات المشكلة لها وحدود الأدوار المنوطة بها في إطار هيكلة تروم إنماء القدرات المؤسسية.
 ثانيا : مقاربة التنظيم القضائي من خلال الإلمام بطبيعة الإختصاصات الموكولة لمحاكم المملكة وحدود تدخلها، والتمكن من مراحل الإختصاص المحلي ونظيره النوعي وكيفية تدبيرهما من طرف المشرع، مما يفرض الإطلاع على كل القوانين ذات الصلة، وتحديد الإختصاصات بكل دقة التي لا محالة تختلف ما بين المحاكم العادية والمحاكم المتخصصة، أضف إلى ذلك محكمة النقض كمحكمة قانون، ومعرفة الإستثناءات التي ترد على قاعدة الولاية العامة للمحاكم الإبتدائية، والقاعدة التقليدية للاختصاص المحلي الذي تنص على أن المدعى يتبع المدعى عليه في عنوانه.
 ثالثا : مقاربة التنظيم القضائي في جانبه المسطري، لأنه لا تكتمل الرؤيا والإحاطة العلمية الشافية بنظام التنظيم القضائي إلا من خلال انصهار عوامل ثلاث : البعد المؤسساتي الهيكلي، الاختصاص المحلي والنوعي، وأخيرا الإلمام بمسطرة التقاضي التي تعطيه بعده الإجرائي.
 ولاشك أن مسطرة التقاضي تتميز بمجموعة من الخصائص يجب الوقوف عليها، ناهيك على أنها تختلف بين المحاكم العادية والمحاكم المتخصصة، وكذا محاكم الدرجة الأولى ومحاكم الدرجة الثانية، مما يثير شغف الباحث في الوقوف على كل التفاصيل وتمييزها وتقديمها للقارئ.
 تلكم أهم المرتكزات التي اعتمدناها في معالجة موضوع التنظيم القضائي، حيث ركزنا على هيكلة المحاكم من خلال تأليفها وتنظيمها ومكوناتها، واختصاصاتها النوعية والمحلية التي تعطيها هويتها القانونية، وطبيعة المساطر المتبعة أمامها بما يمنحها هويتها الإجرائية.
 وقد حرصنا على تصدير هذا الكتاب بفصل تمهيدي عرضنا فيه المبادئ العامة للتنظيم القضائي التي تميز فلسفته وكنهه التي رأينا فيها ضرورة منهجية تسعف في تمثل باقي مواضيعه ومباحثه التي تناولناها في فصلين :
 فصل أول : تعرض للمحاكم العادية في درجتها الأولى والثانية، وفي جانبها التنظيمي والإختصاصي والمسطري ومحاولة إبراز كل ذلك بلغة قانونية معيارية.
 فصل ثان : خصصناه للمحاكم المتخصصة المتمثلة في الإدارية والتجارية الإبتدائية والإستئنافية وخصوصية المساطر المتبعة أمامها وحدود الإختصاصات الموكولة إليها وشكل هيكلتها وتنظيمها بأسلوب يقربها إلى القارئ، دون إغفال اختصاصات محكمة النقض التي توجد على هرم المحاكم المختلفة مكرسة وحدة القضاء كخيار أخذ به المشرع المغربي.
 هذه هي الخطة التي اتبعناها في إنجاز هذا الكتاب، حاولنا من خلالها تجاوز الدراسات الوضعية التي تقف عند حدود المبادئ العامة والقواعد المؤطرة لها، بالإنفتاح على الجانب الإجرائي المسطري بما يوفر إمكانية التمثل الصحيح للتنظيم القضائي والإلمام بمفاهيمه وفلسفته العامة.

مستجدات التنظيم القضائي

     شخص ميثاق إصلاح منظومة العدالة الأعطاب التي يعانيها التنظيم القضائي في ما يلي:
   ـ فقدان الإنسجام بحكم التعديلات المتلاحقة التي طالت مقتضياته؛
   ـ تضخم الخريطة القضائية و عدم عقلانيتها؛
   ـ عدم تعميم القضاء المتخصص.
     لهذه الأسباب اقتضت الضرورة مراجعة التنظيم القضائي الحالي وفق أسس جديدة تتوخى توطيد الثقة و المصداقية في قضاء منصف، باعتباره حصنا منيعا لدولة الحق، و عمادا للأمن القضائي، و الحكامة الجيدة، و محفزا للتنمية.
     وقد حدد المشروع مكونات التنظيم القضائي والقواعد المتعلقة بتنظيم المحاكم، و بيان درجاتها و أصنافها و اختصاصاتها و طرق عملها و تدبيرها الإداري، و كذا حقوق المتقاضين و المبادئ العامة لسير العدالة.
     وقد شملت مستجدات المشروع الجانب الشكلي و الموضوعي للتنظيم القضائي.

1 ـ من حيث الشكل

   أ ـ دمج الأحكام المتعلقة بتنظيم قضاء القرب و المحاكم الإدارية، و محاكم الإستئناف الإدارية، و المحاكم التجارية، ومحاكم الإستئناف التجارية في صلب المشروع المتعلق بالتنظيم القضائي بدل الإبقاء على تلك الأحكام متفرقة في نصوص خاصة؛
   ب ـ تفصيل المقتضيات بشكل واضح و توصيف مجمل المهام بالمحاكم والقائمين عليها أو من لهم علاقة بها؛
   ج ـ احتواء المشروع على أربعة أقسام :
   ـ القسم الأول يتعلق بمكونات التنظيم القضائي و حقوق المتقاضين؛
   ـ القسم الثاني يتعلق ببيان درجات المحاكم و أنواعها؛
   ـ القسم الثالث يتعلق بالتفتيش و الإشراف القضائي على المحاكم؛
   ـ القسم الرابع يتضمن أحكاما ختامية و انتقالية.

2 ـ من حيث الموضوع

   أ ـ المبادئ الموجهة للتنظيم القضائي :

   ـ التركيز على مبدأ استقلال السلطة القضائية أو على التعاون مع وزارة العدل و الحريات فيما يتعلق بالتسيير الإداري للمحاكم، وعلى اشتراك المهن القضائية في سير العمل بالمحاكم؛
   ـ قيام التنظيم القضائي على مبدأ وحدة القضاء، محكمة النقض مع مراعاة تخصص القضاة؛
   ـ توخي فلسفة القرب من المتقاضين وتسهيل الولوج إلى العدالة وفعالية الإدارة القضائية؛
   ـ مراعاة المعطيات الإقتصادية في إحداث المحاكم التجارية؛
   ـ التنصيص على إمكانية عقد المحاكم لجلسات تنقلية ضمن دوائر اختصاصها المحلي؛
   ـ إحداث غرف ملحقة بمحاكم ثاني درجة في دائرتها القضائية .

ب ـ حقوق المتقاضين :

   ـ تفعيل حقوق المتقاضين و ما يرتبط بها بشأن ممارسة حق التقاضي؛
   ـ بيان حالات التنافي القضائي وتجريح ومحاكمة القضاة؛
   ـ تيسير الوصول إلى المعلومة القضائية و تتبع مسار الإجراءات؛
   ـ اعتبار كل مسؤول قضائي ناطقا رسميا باسم المحكمة التي ينتمي إليها.

ج ـ قواعد عمل الهيآت القضائية

   ـ النص على اشتغال المحاكم بما يؤمن انتظام و استمرارية الخدمات القضائية و عقد الجلسات؛
   ـ التنصيص على أن اللغة العربية هي لغة التقاضي والمرافعات وصياغة الأحكام؛
   ـ تفعيل مساطر الصلح أو الوساطة الإتفاقية في الحالات التي يجيزها القانون؛
   ـ وجوبية تعليل الأحكام ولا يسوغ النطق بها إلا بعد تحريرها كاملة؛
   ـ تنظيم موضوع الرأي المخالف أثناء التداول؛
   ـ تكريس الممارسات و الأعراف المتعلقة بافتتاح السنة القضائية والجلسات الرسمية لتنصيب المسؤولين القضائيين و القضاة الجدد؛
   ـ اعتماد الإدارة الإلكترونية للإجراءات والمساطر القضائية؛

د ـ التنظيم الداخلي للمحاكم

ـ بالنسبة لمحاكم الموضوع :
   ـ ضبط التنظيم الداخلي للمحكمة من طرف مؤسسة مكتب المحكمة؛
   ـ توسيع دور الجمعية العامة للمحكمة.
ـ بالنسبة لمحكمة النقض
     جعل التنظيم الداخلي لمحكمة النقض من خلال مكتب المحكمة والجمعية العامة للمحكمة على غرار محاكم الموضوع.

هـ ـ التسيير الإداري للمحاكم :

   ـ التنصيص على وحدة كتابة الضبط و كتابة النيابة العامة؛
   ـ خضوع موظفي هيئة كتابة الضبط إداريا لسلطة ومراقبة وزير العدل والحريات؛
   ـ الإشراف المالي و الإداري لوزير العدل والحريات على المحاكم، كما لا يتنافى ومبدأ استقلال السلطة القضائية؛
   ـ إحداث منصب الكاتب العام للمحكمة يتولى مهام التسيير والتدبير الإداري بالمحكمة والإشراف على هيئة كتابة الضبط يساعده في ذلك رؤساء مصالح كتابة الضبط بالمحكمة؛
   ـ خضوع الكاتب العام للمحكمة لسلطة ومراقبة وزير العدل والحريات وإشراف المسؤولين القضائيين بالمحكمة.
و ـ  المستجدات على مستوى مكونات مختلف المحاكم
ـ المحاكم الإبتدائية
   ـ حذف الغرف الإستئنافية بالمحاكم الإبتدائية؛
   ـ اشتمال بعض المحاكم الابتدائية على أقسام متخصصة في القضاء التجاري و القضاء الإداري؛
   ـ إحداث مكاتب للمساعدة الإجتماعية بالمحاكم الإبتدائية؛
   ـ إبراز وضعية مراكز القضاة المقيمين باعتبارها تابعة للمحكمة الإبتدائية؛
   ـ توسيع مجالات القضاء الفردي في ميدان الأسرة لتشمل قضايا الطلاق الإتفاقي والنفقة وأجرة الحضانة و صلة الرحم و الرجوع إلى بيت الزوجية؛
   ـ توسيع مجال القضاء الجماعي أمام المحاكم الإبتدائية لتشمل القضايا الجنحية التأديبية؛
   ـ تمديد اختصاص قضاء القرب ليشمل الجنح الضبطية المعاقب عليها بغرامة فقط لا تتجاوز 5000 درهم.
ـ محاكم الإستئناف
   ـ إمكانية اشتمال محاكم الإستئناف على أقسام متخصصة في القضاء التجاري والإداري.
ـ النيابة العامة لدى المحاكم التجارية
   ـ تمثل النيابة العامة لدى المحاكم التجارية بنائب أو نواب لوكيل الملك يعينهم وكيل الملك لدى المحكمة الإبتدائية التي توجد بدائرتها المحكمة التجارية.
   ـ تمثل النيابة العامة لدى محاكم الإستئناف التجارية بنائب أو نواب للوكيل العام للملك لدى محكمة الإستئناف التي توجد بدائرتها محكمة الإستئناف التجارية.
ـ محكمة النقض
   ـ اعتبار محكمة النقض هي قمة الهرم القضائي بالمملكة تسهر على مراقبة التطبيق السليم للقانون وتوحيد الإجتهاد القضائي؛
   ـ إضافة غرفة سابعة إلى محكمة النقض هي الغرفة العقارية ؛
   ـ إمكانية تقسيم غرف محكمة النقض إلى هيآت؛
   ـ إحداث أقسام و مصالح فنية و إدارية بمحكمة النقض؛
 ـ التفتيش القضائي و التفتيش الإداري للمحاكم
   ـ تتولى المفتشية القضائية العامة التفتيش القضائي للمحاكم؛
   ـ تولي المفتشية العامة لوزارة العدل التفتيش الإداري و المالي للمحاكم.

ج ـ دخول القانون حيز التنفيذ

   ـ جعل مقتضيات هذا القانون تدخل حيز التطبيق بعد سنة من تاريخ نشره بالجريدة الرسمية، و يتعين إصدار المراسيم الخاصة بتنفيذه خلالها.
     تلكم أهم المقتضيات التي جاء بها مشروع قانون التنظيم القضائي للمحكمة.
     و نشير أننا اقتصرنا في هذا الكتاب على دراسة محاكم الدرجة الأولى و محاكم الإستئناف العادية و المتخصصة، و محكمة النقض كمحكمة قانون، و اعتمدنا منهجية تحليلية حاولنا من خلالها الإحاطة بجميع المظاهر المؤسساتية و التشريعية و الإجرائية من خلال الوقوف على تأليف هذه المحاكم و تنظيمها و نوعية الاختصاصات المعقودة لها القيمية و المحلية، و أخيرا طبيعة المساطر المعتمدة أمامها و كيفية ممارستها على ضوء آخر المستجدات.

إرسال تعليق

أحدث أقدم